العدد 1493 /29-12-2021

انسداد أفق الحلّ السياسي في البلد وما خلّفه من أزمة اقتصادية اجتماعية متفاقمة لم يشهد لبنان مثيلاً لها من قبل يحتاج إلى حلول سريعة بل وسحرية من أجل إنقاذ الموقف. فالجميع بات يدرك أنّ الوضع في لبنان يتجه إلى الاستقرار في قعر المجهول، أو كما يحلو للبعض أن يسمّه "قعر جهنم" الاقتصادي المأساوي. والجميع يدرك أيضاً، بل وبات على قناعة أن إنقاذ هذا الوضع الكارثي، وللأسف، ليس له وأمامه سوى طريق واحد حالياً، وهو الاعتماد على صندوق النقد الدولي والبنك الدولي والدول التي يمكن أن تمنح لبنان قروضاً أو مساعدات مالية مقابل فتح الباب أمامها للتدخّل في الشأن اللبناني العام من خلال الحديث عن ضرورة إجراء إصلاحات جذرية في السياسة والاقتصاد والقانون والاجتماع وما سوى ذلك. بمعنى آخر تلك الدول أو الصناديق تريد امتيازات لها في لبنان مقابل المال الذي ستدفعه.

وبعيداً عن ذلك، وعن الحلول المرجوة أو التي يمكن أن تشكّل مقدمة للخروج من النفق، وبعيداً أيضاً عن السياسات والأسباب التي أوصلت إلى هذه الحالة، وعن الجهات المسؤولة عن تلك السياسات، فإنّ الدعوة إلى الحوار الوطني التي أطلقها رئيس الجمهورية، مشال عون، في كلمته التي قال إنّه صارح فيها اللبنانيين، والتي أرادها مدخلاً للحوار والحلّ على قاعدة البحث في الاستراتيجية الدفاعية من ناحية، وفي تعديل النظام السياسي كي يصار إلى اعتماد اللامركزية الادارية والمالية الموسّعة من ناحية ثانية، وفي مسألة الشفافية والمباحثات مع المجتمع الدولي من أجل الحصول على التمويل اللازم، فإنّها لا تشكّل مدخلاً حقيقياً ومناسباً لحلّ الأزمات التي نعاني منها.

إنّ ملخّص ما قاله رئيس الجمهورية في الدعوة إلى الحوار الوطني يمكن اختصاره بكلمتين هما: تعديل النظام. بمعنى آخر، الذهاب نحو نظام سياسي جديد مختلف عن النظام الحالي الذي يستند إلى وثيقة الوفاق الوطني التي تمّ التوقيع عليها في مدينة الطائف السعودية، وعُرفت لاحقاً باتفاق الطائف، وهي الوثيقة التي وضعت حدّاً للحرب الأهلية، وأعادت بعضاً من الحياة السياسة والدستورية إلى لبنان، وأرست نوعاً من الاستقرار السياسي والاقتصادي والأمني النسبي والمقبول خلال كل المرحلة الماضية وصولاً إلى انتخاب الرئيس ميشال عون، وما رافق الانتخاب من تجاوز للآليات والأطر الدستورية ومن محاولة فرض المرشح الرئاسي بقوة التعطيل وإقفال المجلس النيابي، وهي النتيجة التي ظهرت لاحقاً على هيئة انسداد أفق الحلّ السياسي، وأزمات اقتصادية واجتماعية وإنسانية وغيرها.

إنّ تعطيل الحياة العامة، وما يجري من شلّ عمل مجلس الوزراء وبغض النظر عن الأسباب ومدى صحّتها أو لزومها، ها هو اليوم يفرض تفكيراً بالذهاب خطوة إلى الأمام تماماً كما حصل عند محاولات فرض المرشح الرئاسي الوحيد في العام 2016، فاليوم يجري التعطيل وإقفال مجلس الوزراء، وفرض سياسة الانتظار أو الذهاب خطوة إلى الأمام من خلال فرض إرادة الحوار تحت سيف التعطيل وشلّ البلد وصولاً إلى إنتاج حلول تكون شبيهة في نتائجها بالحلّ الذي انتجته سياسة التعطيل وإقفال المجلس النيابي وفرض المرشح الواحد.

إنّ الدعوة إلى الحوار الوطني أمرٌ مطلوب على الدوام، برعاية رئيس الجمهورية أو برعاية غيره من الرؤساء، والظروف الحالية قد تكون الدعوة إلى الحوار أكثر حاجّة، ولكن على قاعدة وجدول أعمال لا ينسف البلد ويأخذها نحو المجهول من أجل تحقيق رغبات وتطلعات لا تقيم وزناً وحساباً للمعادلات والتوازنات الداخلية، فسيادة هذا المنطق ستجعل أي طرف داخلي يلجأ إلى الانقلاب على النظام وعلى حقوق الشركاء في أيّة لحظة يشعر فيها بفائض القوة، وهذا بالطبع لا يبني بلداً ولا يقيم وطناً.

الحوار المطلوب اليوم ليس من أجل تعديل النظام، وربما هو يحتاج إلى تعديل أو تطوير أو تفعيل، ولكن الحوار من أجل وقف مهزلة التعطيل التي تقضي على كل شيء، ووقف سياسة الارتهان للخارج أو الإصغاء إلى نصائحه وهو لا يريد سوى فرض إرادته والهيمنة على مقدرات البلد تحت عنوان الإصلاحات والشفافية والمساعدات، وما سوى ذلك فإنّ الحوار سيولد ميتاً وسنكون في العام المقبل أمام مرحلة انتظار جديدة يخضع فيها لبنان لمزيد من الضغوطات والتأثيرات الخارجية التي تتعامل مع لبنان كساحة لتصفية الحسابات.

د. وائل نجم