شهر كامل مرّ على لبنان لم يشهد له مثيلاً، ففي الرابع من شهر تشرين الثاني تقدم الرئيس سعد الحريري باستقالة حكومته من الرياض، دون مقدمات ولا تنسيق على أي مستوى، سواء مع رئيس الجمهورية أو أعضاء حكومته أو كتلته النيابية. ثم توارى عن أنظار ومسامع الناس، عدا مقابلة تلفزيونية في مكان اقامته بالرياض، وزيارة مبرمجة لـ«أبو ظبي»، فتح بعدها مجال زيارات دبلوماسية لعدد من السفراء، أبرزهم سفير فرنسا. ثم عاد إلى بيروت عبر القاهرة وباريس وقبرص.
في ذكرى الاستقلال (22/11/2017) ظهر الرئيس الحريري في بيروت من جديد، حيث شارك برعاية العرض العسكري الذي أقيم، الى جانب كل من رئيس الجمهورية ورئيس مجلس النواب.. فإلى القصر الجمهوري حيث شارك باستقبال النواب والشخصيات الرسمية والسفراء العرب والأجانب.. ليظهر بعدها على شرفة «بيت الوسط» وسط حشد كبير من المواطنين الذين وصلوا من كل أنحاء لبنان لتهنئته بسلامة العودة. ويدرك الجميع أن الرئيس سعد الحريري لم يكن راغباً في تقديم استقالته، وقاعدته الانتخابية لم تكن في هذا الاتجاه، كما أن تشكيل «حكومة انتخابات» لم يكن وارداً عند أحد، لا رئيس الجمهورية ولا الكتل النيابية الأخرى. وعلى ذلك فقد عادت الأمور الى ما كانت عليه، وجرى الاتفاق على صياغة فقرة تضاف الى البيان الوزاري تحاول معالجة بعض القضايا الخلافية والإجابة على تساؤلات كانت -وما تزال- محرجة للجميع.
أبرز القضايا التي تسببت في تقديم الرئيس الحريري استقالته أو حمله على تقديمها، كانت موقف الحكومة من قضايا المنطقة، لا سيما علاقات إيران بدول الخليج. فالمملكة العربية السعودية تقود صراعاً سياسياً ضد إيران، بدعم أمريكي وعربي، ويتحوّل هذا الصراع الى صدام عسكري عبر اليمن والعراق في بعض الأحيان. وبما أن «حزب الله» يشكل مكوّناً أساسياً في الحكومة اللبنانية التي يترأسها الحريري، ويهيمن على مواقف وتوجهات عدد من الكتل النيابية، فقد ذهب القرار السعودي باتجاه اسقاط هذه الحكومة، بصرف النظر عن النتائج التي يمكن أن يؤدي إليها الفراغ الحكومي، واستحالة تشكيل حكومة جديدة يدرك الجميع أن عمرها لن يزيد عن أشهر قليلة، يضاف إلى ذلك أن رئيس الجمهورية وكتلته النيابية ووزراءه في الحكومة، مدينون لحزب الله في ايصال الرئيس ميشال عون إلى سدّة الرئاسة، وبالتالي فلا يمكن ادراج تعديلات جذرية في برنامج الحكومة أو مسارها السياسي دون التفاهم مع هذه القوى على موقف سياسي ينأى بلبنان عن أن يكون طرفاً في أي من القضايا الخلافية المطروحة. لذلك فقد جرى طرح الشعار اللبناني المتداول، وهو «النأي بالنفس» الذي تبناه الرئيس الحريري بعد عودته سواء من رحلة الاستقالة، أو محطة التريث، أو طريق العودة والوصول إلى الصيغة الوفاقية التي تدارستها وتفاهمت عليها القوى السياسية الممثلة في الحكومة.. الى أن كان اجتماع الحكومة في قصر بعبدا، والبيان الذي أدلى به الرئيس الحريري، واختتمه بإسداء الشكر لرئيس الحكومة على قبوله بالعودة عن الاستقالة.
صحيح أن سياسة «النأي بالنفس» كانت عنوان التفاهم الوطني الذي جرى التوافق عليه، لكن هذا العنوان تضمّن عدم التدخل بالخلافات السياسية العربية والإقليمية، وأبرزها الخلاف السعودي الإيراني، كذلك الموقف من الصراع الدائر في سوريا، والحرب الطاحنة في اليمن. و«حزب الله» المشارك في الحكومة الحريرية طرف أساس في هذه الحروب، أو الصراعات السياسية الدائرة في هذه الأقطار. ويعلم المراقبون أن وزيري حزب الله في حكومة الرئيس الحريري، وكذلك بقية داعميه فيها، وافقوا على البيان الوزاري الذي جرى الإعلان عنه.. لكن يبدو أن هذا البيان الذي جرت الموافقة عليه لا يعدو أن يكون خطاباً سياسياً شبيهاً بـ«إعلان بعبدا» الذي ناقشه ووافق عليه المشاركون في طاولة الحوار التي انعقدت في قصر بعبدا قبيل نهاية عهد الرئيس ميشال سليمان. ففي اليوم الذي انعقد فيه مجلس الوزراء بقصر بعبدا يوم الثلاثاء الماضي، وأعلن فيه الرئيس الحريري عودته عن الاستقالة.. كان نائب أمين عام حزب الله الشيخ نعيم قاسم يلقي خطاباً في «مؤتمر الوحدة الإسلامية» الذي انعقد في طهران، وجه فيه نقداً لاذعاً للمملكة العربية السعودية، واتهم النظام السعودي بأنه استبدادي وأنه يقدم الدعم للقوى الإرهابية. هل يقع هذا تحت عنوان النأي بالنفس أم أنه مجرد موقف سياسي أو فكري عابر؟!
هناك قضايا خلافية كثيرة، بصرف النظر عن سلاح المقاومة الذي يمكن التفاهم عليه وخاصة حين يكون في مواجهة العدوّ الإسرائيلي.. ماذا عن المشاركة في الحرب الدائرة في سوريا، وكيف تعبر المجموعات المسلحة الحدود اللبنانية ذهاباً وإياباً الى سوريا.. وماذا لو عادت مجموعات داعش والنصرة الى مواقعها القديمة لتلاحق قوات حزب الله التي تحاربها في كل أنحاء سوريا؟! وماذا عن تدريب وتأهيل مجموعات «أنصار الله» الحوثيّين عندما يدخلون لبنان براً أو جواً، تحت نظر الأمن اللبناني.. بينما يجري اعتقال ومحاكمة كل من يثبت انتماؤه لمجموعات «إرهابية تكفيرية» سواء في سوريا أو غيرها.
ان شعار «النأي بالنفس» صالح لتغطية المرحلة التي تسبق الانتخابات النيابية، وكذلك رأب الصدع الذي يمكن أن يصيب المؤسسات الدستورية اللبنانية، لكن «الشيطان يكمن في التفاصيل» كما يقولون، فلا بدّ من العودة الى «استراتيجية دفاعية» تنظم أداء القوى المسلحة في لبنان، سواء كانت تحت عنوان «المقاومة» أو «سرايا المقاومة»، حتى لا يشعر أي مواطن لبناني بأن هناك صيفاً وشتاءً تحت سقف واحد، وهذا ما يأخذ أبعاداً طائفية ومذهبية، فضلاً عن الأبعاد السياسية.
لقد خرج العهد ورئيس وزرائه منتصرين في المواجهة التي دارت في لبنان خلال الشهر الماضي.. لكنها جولة قد تليها جولات، إلا إذا جرت مناقشة القضايا الخلافية بجدّية وموضوعية.