ما يجري حولنا في العالم العربي أليم ومرير. من أزمات سياسية إلى ضائقات اقتصادية إلى نكبات تهدد بعض الأقطار بالانقسام والتفتت. لكن كل ذلك يهون إزاء ما يجري في سوريا منذ أكثر من خمس سنوات. فقد أعلن الشعب السوري ثورته على نظامه (الاستبدادي الوراثي العسكري الطائفي) منذ ما يقارب الست سنوات، واستجاب الشعب السوري لنداءات الثورة وتحمل كل أشكال القمع والقهر، الى أن لجأ النظام الى استعمال سلاحه الثقيل، من دبابات وطائرات وصواريخ، في التصدي للمظاهرات السلمية والأحياء السكنية والمشافي والمساجد، واستدرج الى ساحته ميليشيات طائفية، لبنانية وعراقية وباكستانية، وقوات نظامية إيرانية وروسيّة.. ثم أفرجت سلطات النظام عن مجموعات من عتاة المتطرفين الإسلاميين من نزلاء السجون السورية والعراقية، فشكلوا منظمات متطرفة (مثل داعش وأخواتها) انتشرت في مناطق سورية وعراقية، مما أتاح لدول عربية وغربية فرصة تشكيل تحالفات عسكرية لمواجهة الإرهاب والتطرف.. وهكذا اتسع نطاق المواجهة في سوريا كي تتحول الى حرب نظامية شاركت فيها قوات جوية وبحرية لعدد من دول العالم، وكانت «الجمهورية العربية السورية» هي الضحيّة، فإعمار سوريا ليس مطروحاً على طاولات الحوار، وانما مجرد وقف اطلاق النار أو وقف القصف الجوي هما كل ما تسعى إليه المؤتمرات الدولية أو قرارات الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي.
ليس هذا وحسب، بل ان سوريا «الدولة الموحدة» باتت مجرّد حلم بعيد المنال، فهناك «سوريا المفيدة» و«سوريا الديمقراطية» و«المناطق الآمنة».. بل ان بعض الدول الكبرى باتت لا تخجل من اقامة قواعد بحرية أو جوية في عدد من المناطق السورية، فالاتحاد الروسي الذي ورث الاتحاد السوفياتي، أنشأ قاعدة بحرية دائمة قرب طرطوس، وقاعدة عسكرية أخرى على الساحل قرب مدينة جبلة، اضافة الى قاعدة جوية في «حميميم» قرب اللاذقية، بموجب اتفاقية وقعتها موسكو مع النظام السوري في شهر آب من العام الماضي (2015). كما أن وزارة الدفاع الروسية نشرت منظومة صواريخ (أس 300) و(أس 400) لحماية القاعدة العسكرية في حميميم، مما يضمن لروسيا وجوداً عسكرياً دائماً في المنطقة وعلى ساحل المتوسط. وطائرة الركاب التي سقطت منذ أيام على ساحل البحر الأسود كانت تحمل فرقة عسكرية موسيقية (مع بعض كبار الضباط الروس) أتت للترفيه عن القوات العسكرية الروسية في قاعدة حميميم في رأس السنة الميلادية.
لكن، ماذا عن إيران ودورها في المعارك الدائرة في سوريا؟! هي غير مضطرة لبناء قواعد جوية أو بحرية، لأن حضورها في سوريا كان سبق التدخل الروسي بسنوات، ويقول العارفون بالوجود الإيراني في المؤسسات والقواعد العسكرية السورية، ان هذا الوجود قديم ومتجذر، ولذلك فإن إيران والميليشيات التابعة لها لن تجد تعويضاً عما ضمنه لها نظام بشار الأسد، سواء في المؤسسات المدنية أو العسكرية. ومن قدّر له أن يسافر من دمشق الى طهران (قبل الثورة) يدرك حجم التسهيلات والخدمات التي يقدمها مطار دمشق الدولي أو مطار المزة العسكري لحركة النقل أو السفر عبر هذا الطريق. أما في اطار الانتشار المذهبي فحدّث ولا حرج، وقد أشار الى ذلك رئيس الوزراء السوري السابق (رياض حجاب) الذي انشق عن النظام وانضم الى المعارضة السورية عام 2012، فقد تحدث عن عشرات الحسينيات التي تقيمها المستشارية الثقافية الإيرانية في مختلف المحافظات السورية.
واليوم، يبدو أن الدول التي كانت صديقة للشعب السوري، وفي طليعتها تركيا والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة ودول الخليج، تراجع اهتمامها بالشأن السوري. فالولايات المتحدة الأميركية لم تعد معنيّة بالشأن السوري وغيره من الملفات، خاصة أن الرئيس أوباما يحزم حقائبه لمغادرة البيت الأبيض، والرئيس المنتخب (ترامب) لم يستكمل إدارته السياسية والعسكرية بعد. وتركيا تنوء بتداعيات أزمتها الاقتصادية ومخلفات الانقلاب الفاشل.. وبات الأمر متروكاً لمفاوضات بين روسيا وإيران وتركيا، ضمت إليها ما يسمى «المعارضة المعتدلة» أو معارضة الداخل التي تسلّم باستمرار نظام بشار الأسد كشرط لانعقاد عدد من اللقاءات العسكرية والسياسية، بعضها في أنقرة وبعضها الآخر في موسكو، والأمل معقود على انعقاد جولة جديدة بـ«استانة» في كازاخستان. وتتميّز هذه اللقاءات بمشاركة عسكرية لضباط سوريين يمثلون النظام والمعارضة، اضافة الى الوسطاء الروس والأتراك والإيرانيين، وهؤلاء لن يتجاوزوا في حواراتهم وقف اطلاق النار وتقاسم المناطق والتمهيد للحل السياسي الذي سوف يتولاه غيرهم.
وانطلاقاً من هذه الاشكالية، فقد أصدرت جماعة الإخوان المسلمين في سوريا بياناً حمل نداء الى فصائل المعارضة المشتركين في التفاوض، جاء فيه: «التفاوض مع العدوّ يتطلب تعاوناً وثيقاً بين القوى السياسية للثورة والقوى العسكرية، واقتصار المفاوضات على الفصائل المسلحة يضعف الموقف الثوري، خصوصاً مع ما تعلمون من غياب مرجعيتكم وتعدد قياداتكم..»، ودعت الجماعة الى تشكيل «لجان تنسيق سياسة مع هيئة التفاوض العليا، التي يجب ان تبقى الممثل الأول والوحيد للتفاوض باسم الشعب السوري».
كل المؤشرات تدل على أن الأزمة السورية، أو «قضية الشعب السوري» ما تزال بعيدة عن الوصول إلى حل أو تسوية، وهذا ما سوف تكون له انعكاساته على الساحة اللبنانية.. فضلاً عن أن ما يجري في سوريا سوف تكون له تداعياته الإنسانية والاجتماعية، فضلاً عن الأمنية والسياسية.