لم يألف العالم، لا سيما العالم العربي، أن يجري الإعلان عن حركة انقلابية تشارك فيها مختلف أجهزة الدولة والجيوش النظامية وسلاح الطيران وقاعدة انجيرلك التابعة لحلف شمال الأطلسي.. ثم يجري الإعلان بعد ذلك بساعات أن الانقلاب فاشل، ويظهر رئيس الجمهورية وهو يخاطب شعبه عبر وسائل التواصل الاجتماعي والهواتف النقالة، مطالباً الجماهير بالنزول إلى الشوارع ومواجهة القوات العسكرية، كما طالب الأجهزة الأمنية بمواجهة الدبابات والدفاع عن الحرية والديمقراطية حتى الموت..
وقد استجاب الشعب التركي لنداء الرئيس، وتدفقت الجماهير إلى الشوارع والساحات العامة، وساندت قوى الأمن في مواجهتها للمدافع والأسلحة الثقيلة، مما تسبب في مصرع العشرات تحت جنازير الدبابات، إلى أن استعاد الشعب المبادرة، وأبطل البيان الانقلابي رقم واحد، مما آذن بعودة الشرعية وتواري الانقلابيين في جحورهم.
ليست القضية رصيد الرئيس أردوغان الشعبي والانتخابي، ولا خطابه السياسي الذي واكب به حراك الجماهير في الشوارع والساحات، وانما حرص هذه الجماهير، علمانية كانت أم إسلامية، على أن تسترد قرارها وحريتها وكرامتها، خاصة بعد أن تشاركت الأحزاب التركية الرئيسية الأربعة في رفض الانقلاب ودعم الشرعية، مع أن الخلاف الفكري والسياسي القائم بينها أكبر من أي مصلحة عابرة.. وبهذا أثبت الشعب التركي نضجه الفكري والسياسي، وأنه يستحق أن يكون في طليعة دول الاتحاد الأوروبي ومجموعة الدول العشرين التي تتولى تركيا ريادتها لهذا العام.
لم تكن العملية الانقلابية في تركيا مجرد دبابات أو طائرات تحركت وجرى الإعلان عن الانقلاب، حتى ولا مجرد وقوع خطأ تكتيكي بتقديم موعد التحرك الانقلابي ست ساعات الى الأمام أو الى الوراء، حتى ولا القصف الجوي الذي تعرّض له المجلس النيابي في سبع غارات، ولا قصف الفندق الذي كان ينزل فيه الرئيس.. كل ذلك كان يمكن تجاوزه لولا أن الجماهير نزلت ليلاً الى الشوارع، وملأت الساحات وهي تحمل العلم الوطني وليس صورة هذا الزعيم أو ذاك، واستطاعت تعطيل تقدم الدبابات واقلاع الطائرات.. يضاف الى كل ذلك نزول رئيس الجمهورية ورئيس مجلس الوزراء (بن علي يلدرم) ورئيس الجمهورية السابق (عبد الله غول) والرئيس السابق (أحمد داود أوغلو)، اضافة إلى رؤساء أحزاب المعارضة الرئيسية.. ليقف كل هؤلاء ضد الحركة الانقلابية، ويؤدوا صلاة الجنازة على الشهداء، مدنيين أو من قوى الأمن، الذين وقفوا ضد توسع الوحدات العسكرية في بسط سيطرتها على مؤسسات الدولة.
لكن، يبقى السؤال: من كان وراء هذا الأسبوع الطويل الذي سقط خلاله مئات القتلى، واعتقل الآلاف من كبار الموظفين، مدنيين وعسكريين ومن خطط وموّل هذا الانقلاب الخطير؟! يوجه البعض أصابع الاتهام إلى فتح الله غولن، أو ما يسمى «النظام الموازي»، وهؤلاء رغم الخلاف السياسي معهم إلا أنهم فصيل إسلامي، لا يمكنه تحريك عشرات الجنرالات ومئات كبار ضباط الجيش والوحدات العسكرية، كما يستبعد إلى حدّ كبير قصف مجلس النواب في سبع غارات، ولا دهس الناس في الشوارع بالدبابات، أو التحكم بالطلعات الجوية في قاعدة انجيرلك التابعة لحلف شمال الأطلسي..
معروف أن فتح الله غولن غادر تركيا منذ العام 1999 وأقام بولاية بنسلفانيا في الولايات المتحدة، ليتابع من هناك مدارسه ومؤسساته الإعلامية المنتشرة في كل أنحاء العالم، وكلها ذات طابع دعوي إسلامي. وليس ممكناً لمثل هذه المؤسسات أن تدار برجل واحد وعقل واحد، مهما بلغت كفاءته وقدراته، وفي هذه الحال ليس مستبعداً أن يستعين بكفاءات أمريكية أو تركية أو غيرها، خاصة بعد أن توزع إرث مجموعة «طلبة النور» أو «النورسيّين» الحركة التي أطلقها «سعيد النورسي» الذي توفي عام 1960، وباتت موزعة على مختلف التوجهات الإسلامية في تركيا. ومن هنا فإن رجلاً طاعناً في السن (قارب الثمانين) تنسب إليه أو الى مؤسساته ممارسات أو ارتكابات لا يعرفها، بدءاً من موقفه الذي أعلنه منذ سنوات ضد اسطول الحرية التركي وعلى رأسه سفينة «مافي مرمرة» التي كانت تحمل مواد اغاثية وغذائية الى قطاع غزة، وسقط في العدوان الإسرائيلي على السفينة تسعة شهداء، توفي عاشرهم الذي كان جريحاً.. ليدلي غولن بتصريحات من بنسلفانيا يدين فيها تصرّف الشباب الذين كانوا على متن السفينة، ويقول ان واجبهم كان يحتم عليهم طلب الإذن من إسرائيل قبل التوجه الى غزة. فمن كان يشير على فتح الله غولن ومن كان يدير حراكه السياسي ليس مستبعداً أن يزج به في عملية انقلابية، ليس ضد حزب العدالة والتنمية وحده، بل ضد جميع القوى السياسية، والشعب التركي كله.
كان بديهياً أن يتعاطف المسلمون في كل مكان مع انتفاضة الشعب التركي ضد الانقلاب العسكري، وقد أثبتت الانتفاضة مرة ثانية وثالثة أن الإسلام هو دين الحرية والكرامة.. وأن الإسلاميين الذين يخوضون منذ سنوات مواجهات مكشوفة مع الانقلابات العسكرية والأنظمة الاستبدادية، سواء حققوا نصراً معجلاً أو مؤجلاً في هذه المواجهات.. هم الأحرص على الحرية والكرامة والديمقراطية، وأن شعوبهم سوف تكون وفيّة لهم ولمبادئهم وأهدافهم.
أما المسار الإسلامي الذي بات في مقدمة تطلعات الشعب التركي.. وأما حزب العدالة والتنمية الذي يقود هذا المسار في تركيا.. فهو يدفع الثمن غالياً في الوقوف ضد عودة الاستبداد والحكم العسكري الى الساحة التركية. ونسأل الله ان لا يكلفه ذلك مزيداً من الدماء، سواء كانت من الموالاة أو المعارضة، خاصة عند الحديث عن صراع محتمل بين توجهات إسلامية تركية.. بصرف النظر أين يكون الحق، هنا أو هناك.
رئيس التحرير