منذ أسابيع.. كان العرب يضربون كفاً بكف عند استعراض الأوضاع السياسية والأمنية في معظم أقطارهم. كان الشعب الفلسطيني في الأراضي العربية المحتلة يستنجد بإخوانه العرب والمسلمين لإنقاذ المسجد الأقصى الذي يهدّد الكيان الصهيوني باحتلاله أو هدمه، وكان الأسرى في سجون الاحتلال قد أمضوا أكثر من أربعين يوماً مضربين عن الطعام سعياً لتحسين أوضاعهم. أما الأزمة في سوريا التي مضى عليها ست سنوات، فهدّمت خلالها المنازل والمساجد والمشافي ومعظم البنى التحتية، وسقط خلالها مئات آلاف القتلى، وشرّد ملايين السوريين في شتى أقطار العالم، وقد كانوا يعوّلون على إخوانهم العرب، لا سيما منهم الخليجيين، للتدخل من أجل وقف عمليات الإبادة، والتخطيط لإعادة الإعمار. والشعب اليمني، والشعب الليبي، وبقية العرب المقهورين أو المشردين.. ينتظرون من إخوانهم العرب الخليجيين تدخلاً يوقف مآسيهم ويضع حداً لنكباتهم. لكنهم فجأة ودون مبرر ودون سابق انذار، يفاجؤون بأزمة سياسية مستحكمة حلّت بمنطقة الخليج، فحوّلت أمنه الى اضطراب، ورخاءه إلى استنفار، وجعلت أقطاره تنتظر المبادرات التي تخفف من حدة الأزمة وتضع حداً لحالة التنابذ والتراشق السائدة في الإقليم.
لكن السؤال الذي يطرح نفسه إزاء كل ما جرى ويجري، لماذا قطع العلاقات واغلاق الحدود وفرض حصار بري وجوي وبحري، على بلد خليجي تجمعه بإخوانه العرب - والخليجيين خاصة - كل أواصر الإخاء في العرق واللغة والدين، وربما العشيرة والعائلة في الأقطار المعنيّة بالخلاف؟
عندما عقدت القمم الثلاث في الرياض، الخليجية والعربية والإسلامية، ليقف فيها الرئيس الأميركي دونالد ترامب ويطرح رؤيته المعروفة عن الإرهاب وإلباس الإسلام والمسلمين هذا اللباس، حسب المراقبون أن التكريم الذي أحاط بالرئيس الأميركي سيكون له ثمن، فقد حصد الرجل عقوداً بمئات المليارات من الدولارات، ووقف خطيباً بممثلي خمس وخمسين دولة، وهو الذي ما زال مهدداً بإدانته في بلده وإخراجه من البيت الأبيض، وما تزال المظاهرات الشعبية تخرج ضده في شوارع المدن الأميركية، والأوروبية (عند زيارتها)، فلماذا هذا التكريم السياسي، والمكافأة المالية والاقتصادية، دون أن يتراجع عن الاساءات التي ارتكبها ضد العرب والمسلمين، خاصة بعد القرار الذي اتخذه بوقف دخول مواطني سبعة أقطار إسلامية الى الولايات المتحدة الأميركية؟
بعد عودة ترامب الى بلده بأيام، تطل على منطقة الخليج العربي بوادر أزمة غير مسبوقة، بعد اختلاق تصريح منسوب إلى أمير دولة قطر، تسبب بهذا السيل العرم من العقوبات، تساندها اجراءات قامت بها مجموعة من الدول العربية، القريبة والبعيدة، مما أحرج عدداً من دول العالم الكبرى التي فاجأها الإجراء دون أن تجد له سبباً. وبدلاً من مطالبة الرئيس الأميركي بالتراجع عن اساءاته الى الإسلام والعرب والمسلمين، نجد أن دولة قطر باتت مطالبة بتنفيذ «عشرة شروط» لمعالجة أزمتها مع محيطها الخليجي، كلها تحمل اعتداء على القيم الأخلاقية والإسلامية وقيم حسن الجوار.
كان المراقبون يتوقعون من المملكة العربية السعودية أن تنقم على حركة المقاومة الإسلامية (حماس) لأنها أقامت مكاتبها في الدوحة، وليس في جدة أو الرياض، وان تكون السعودية بديلاً عن التمويل التركي أو الإيراني لبعض المنشآت الطبية والاغاثية في قطاع غزة الذي تحكمه حركة حماس، التي وصلت الى السلطة بعد انتخابات تشريعية حرة ونزيهة جرت عام 2006، خاصة أن ادانة الحركة من قبل ترامب وغيره من المسؤولين الخليجيين، وقعت في نفس الوقت الذي يستقبل فيه النظام المصري (المعادي للحركة الإسلامية) وفداً رسمياً من قيادة حركة حماس في قطاع غزة، لتنسيق العلاقات، والعمل على معالجة الأوضاع الأمنية على الحدود، وفتح معبر رفح.. فلماذا هذا الموقف الخليجي غير المبرّر من حركة حماس، وهي التي لم تطلق رصاصة خارج فلسطين المحتلة، ولم تتدخل في الشؤون الداخلية لأي من الأقطار.. اضافة الى أنها نجحت في تحرير قطاع غزة من الاحتلال، والاحتفاظ به محرراً رغم الاعتداءات المتكررة من قوات الاحتلال الإسرائيلي.. فهل تكافأ باعتبارها منظمة إرهابية بعد هذه الانجازات؟!
أما الموقف الخليجي من الحركة الإسلامية (الإخوان المسلمون) فهو غير مبرّر كذلك، خاصة من المملكة العربية السعودية.. والسعوديون يعرفون أن المملكة أقامت في أواسط القرن الماضي «الجامعة الإسلامية» في المدينة المنوّرة، ورابطة العالم الإسلامي في مكة المكرمة، والندوة العالمية للشباب الإسلامي في الرياض مطلع السبعينات، وهذه المؤسسات استطاعت أن تجعل من المملكة بلداً رائداً في مجال الفكر الإسلامي، وقد استفادت من هجرة أبناء الحركة الإسلامية إليها عندما انتشرت الانقلابات العسكرية والأنظمة الاستبدادية، من سوريا الى مصر والعراق واليمن والسودان وغيرها. والتهمة التي يسوقها أعداء الحركة الإسلامية ضدها أنها مرتبطة بـ«المخطط السعودي»، خاصة بعد بروز نماذج إسلامية أخرى في عدد من أقطار العالم الإسلامي.
نعود الى الاشكالية القائمة بين قطر من جهة، ودولة الإمارات والسعودية من جهة أخرى. قد تكون وراء الأزمة أسباب غير معلنة، خاصة أن هناك حدوداً مشتركة ومصالح عشائرية، لكن ذلك لا يجوز ولا ينبغي أن يصل إلى هذا المستوى من الصراع السياسي والإعلامي، كما لا ينبغي أن يجري استخدام الإسلام والقيم الإسلامية، وفلسطين والمقاومة الإسلامية، ذريعة أو أداة في السجال أو الصراع المحتدم.. والأمل كبير في أن تعود القيادات الخليجية الى الحد الأدنى المعروف والمتداول فيما بينها.. فالعرب جميعاً يحتاجون إلى إخوانهم الخليجيين، لا سيما في السعودية وقطر، من أجل معالجة القضايا الكبرى الشائكة على الساحة العربية، وان تنجح المبادرة الكويتية، ومعها التركية وغيرها، في اغلاق هذا الملف.}