العدد 1390 / 11-12-2019

د. وائل نجم

الدستور هو بمثابة العقد الاجتماعي الذي ينظّم العلاقة بين أفراد المجتمع في دولة واحدة يحتكم الجميع فيها إلى سقفه وآلياته وحدوده، وهو دائماً يتمّ وضعه من أجل أن يكون الفيصل بين الناس، وهو غالباً ما يكون أقوى من القانون، ويحتاج إلى آليات أكثر صعوبة لتغييره أو تعديله، فضلاً عن أنه وضع آليات تنفيذية من أجل تسيير عجلة الدولة حتى لا تقع في الفراغ، وحتى تبقى الحياة منتظمة بحيث لا يطغى فيها طرف على آخر أو تحلّ الفوضى مكان الاستقرار والهدوء.

في لبنان وضع الدستور اللبناني آليات تنفيذية كثيرة لكل مؤسسة من مؤسسات الحكم. فرئاسة الجمهورية لها آليات انتخاب وتسيير وعمل، والمجلس النيابي له آليات انتخاب وتسيير وعمل، وكذلك الحكومة لها آليات تشكيل وتسيير وعمل، وقد ضمن الدستور عدم حصول الفراغ في أي من هذه المؤسسات بحيث أنه إذا حصل فراغ مؤقت لسبب من الأسباب القاهرة في واحدة من هذه المؤسسات فإن الصلاحيات تنتقل مؤقتاً إلى مؤسسة أخرى أو مؤسسات أخرى. وتجاوز الدستور والآليات غالباً ما يؤدي إلى اضطراب وفتنة وفوضى بين أبناء العقد الاجتماعي، وتجاهله أو القفز فوقه أيضاً غالباً ما يؤدي إلى خلافات وصدامات وغير ذلك، وتكون المسألة أكثر تعقيداً عندما حاولت مؤسسة من مؤسسات الدولة أن تطغى على صلاحيات مؤسسة أخرى بحيث تشعر تلك المؤسسة بالاستهداف، خاصة في بلد يقوم على أساس الاعتراف بصلاحيات الطوائف التي تمتلك "فيتوات" على كثير من الأمور.

في الفترة الأخيرة في لبنان، وبعد انطلاق انتفاضة الشعب اللبناني على خلفية الأزمة الاقتصادية الاجتماعية السياسية، وبعد استقالة حكومة العهد الأولى برئاسة الرئيس سعد الحريري، كان من المفترض برئيس الجمهورية، وبناء لنصوص الدستور ومضمونه، أن يدعو خلال وقت معقول إلى استشارات نيابية ملزمة أقرّها الدستور وألزم الرئيس بإجرائها وبنتائجها، إلاّ أن الرئيس تريّث وطال تريّثه بالدعوة حتى مرّ عليها قرابة شهر ونصف، وتزامن ذلك من مخالفة دستورية أخرى عندما أجرى الرئيس وفريقه مشاورات، بعيداً من منطوق الدستور، مع عدد من القوى والشخصيات السياسية باستثناء النواب والكتل النيابية، ومحاولة الاتفاق على الرئيس الذي سيكلف تشكيل الحكومة إضافة إلى الاتفاق على شكل وهيكل ودور الحكومة المنتظرة، وفي كل ذلك تجاوز للنصوص الدستورية حيث أن اختيار الرئيس الذي يشكل الحكومة هو صلاحية النواب والكتل النيابية وفق آلية معروفة أقرّها واعتبرها الدستور، ومن ثمّ فإن تشكيل الحكومة هو من صلاحية الرئيس الذي يُكلّف، فهو الذي يختار فريقه الحكومي وهو الذي يجري مشاوراته من أجل ذلك، وفي هاتين المسألتين تجاوز من رئيس الجمهورية لنصوص دستورية، وكذلك لصلاحيات مؤسسات أخرى في الدولة، فضلاً عن أن التأخير فيه نوع من التعسّف في استخدام الحق، وهذا من شأنه أن يجعل صاحب الحق موضع المساءلة وحتى المحاسبة.

لقد دعا رئيس الجمهورية إلى استشارات نيابية ملزمة يوم الاثنين الماضي، ولكن الظروف والمواقف وحالة الرفض للآليات التي اعتمدت وتمّ السير بها أرخت بثقلها على مسألة الدعوة التي باتت في خطر، لذا أرجأ الرئيس الاستشارات إلى السادس عشر من الجاري، ملقياً بالمسؤولية عن عميلة التأخير هذه الفترة على غيره من المسؤوليين المعنين، وحتى بحد ذاته يعكس اعترافاً ضمنياً بتجاوز الصلاحيات والنصوص، حتى أنه يمكن القول إن هذه الآليات التي خالفت الدستور كادت تنزلق بالبلد إلى أجواء هو بغنى عنها إن لم نقل إلى ما هو أسوأ وأخطر على البلد.

اليوم المطلوب أن يتمّ احترام والتزام الأطر والآليات الدستورية المعتبرة والمعمول بها من أجل حماية الدستور نفسه من الاستهداف، وكذلك من أجل حماية البلد من الانزلاق نحو المجهول والفتنة، وإلاً فإن لبنان قد يكون في خطر المسؤول عنه من يُفترض بهم أنهم حماته وحماة دستوره.