العدد 1395 / 15-1-2020

د. وائل نجم

الحراك الشعبي الذي انطلق في تشرين الأول من العام الماضي شكّل حدثاً مفصلياً في لبنان، وإن رأى البعض وأنا منهم، أنه لم يرتقِ بعد إلى أن يكون "ثورة" حقيقية بما تعنيه الكلمة من معنى. لأنّه لم يطرح مشروعاً متكاملاً لاستبدال النظام القائم بنظام ثوري، لكنّه أحدث تحوّلاً مهمّا في الحياة العامة والسياسية التي كانت راكدة وكانت أسيرة فئة من السياسيين الذين يحكمون البلد، أو فئة من القوى السياسية المتحكّمة بقراره.

إنّ أبرز وأهم ما أنجزه الحراك أنّه أيقظ اللبنانيين على حقوقهم المسلوبة والمهدورة وعلى أموالهم المنهوبة، فسقطت عند أغلبيتهم مسألة الانتماءات، وصار التركيز الأساسي على مسألة الحقوق.

إنّ ما وصلت إليه الأمور حالياً لا يعني أبداً أنّ الفئة الحاكمة والمهيمنة أو الدول والجهات التي تحاول الاستغلال استسلمت وارتضت أن تخضع لمطالب الحراك والناس، بل على العكس من ذلك تماماً، فإنّنا نجد أنّ هذه الفئة أو تلك الدول والجهات تبدع في ابتكار الأساليب والوسائل التي تخدم مصالحها وأهدافها، وهذا ما يحمّل الحراك مسؤولية مضاعفة لإدراك تلك الوسائل والأساليب، وبالتالي التصدّي لها وإفشالها للحفاظ على الوطن، واستعادة حقوق المواطنين.

إنّ آخر ما تفتقت عنه ذهنية وعقلية الذين يستهدفون الحراك أنّهم راحوا يستهدفون المكوّن الأساسي الذي يُعدّ ويُعتبر العمود الفقري له، وأقصد بذلك المسلمين السنّة في لبنان، إذ كان ملاحظاً أنّ زخم الانتفاضة كان وما يزال يتركّز في المناطق ذات الكثافة أو الأغلبية السنّية دون أن يعني ذلك عدم مشاركة وفعالية المكوّنات الأخرى.

إنّ أخطر ما في المحاولات الجديدة "الخبيثة" لاستهداف الحراك ومشروع استعادة حقوق المواطنين وبناء دولة حقيقية تسود فيها منظومة الحقوق والقيم فيتكافأ فيها المواطنون على اختلافهم وتنوّعهم وتعدّد انتماءاتهم، التمهيد غير المباشر، والدعوات التي بدأت تطلّ برأسها لإضعاف الدولة ومؤسساتها، ومن ثمّ تركها للفراغ وصولاً إلى حالة الانهيار، حتى تأتي جهات "مُختلقة" (صنيعة أجهزة) وتملأ هذا الفراغ على طريقتها الخاصة.

بصورة أدق وأوضح هناك ملاحظة خطيرة يجب التنبّه لها، إذ أنّ الخطة المشبوهة التي يتمّ العمل بموجبها تهدف إلى إضعاف مؤسسات الدولة في بعض المناطق وإظهارها عاجزة وفاقدة للقدرة على تأمين مستلزمات المواطنين أو حماية نفسها، ومن ثمّ ترك الفرصة للناس للنيل منها ومن هيبتها وصولاً إلى سقوطها. ويتزامن ذلك مع دعوات مشبوهة للانفصال عن الدولة عبر اعتماد صيغة "حكم ذاتي" يؤمّن الماء والكهرباء والأمن وغير ذلك من المستلزمات الأخرى، دون أن يكون معروفاً من يدير هذه "الصيغة الذاتية" ، كما يتزامن ذلك مع تضخيم قوة وإمكانية بعض الجهات والهيئات المحلية "المصطنعة" التي يمكن التحكّم بها، أو يمكن توجيهها بطرق غير مباشرة، والتي يمكن أن تقدّم صورة سلبية عن نفسها أو عن الفكر الذي يمكن أن يُحمّل لها، أو حتى عن البيئة التي تعيش فيها بما يسهّل على صانعي تلك "الصيغة" إطلاق صفات "الإرهاب" على "الكيان الذاتي الجديد" وبالتالي يُسّهل اختراقه واستهدافه واستهداف الحراك من خلاله، لأن المعركة عندها لن تكون على المطالب المحقّة، بل على شيء آخر، تماماً كما حصل في بعض دول الجوار قبل سنوات.

لذا حذار من هذه العناوين والدعايات، وحذار من انهيار الدولة أو من إضعافها لأنّ من شأن ذلك دفع الأثمان الباهظة التي لا يمكن أن تعوّض بأي شكل من الأشكال.