عبد الغفار عزيز

إن من يقرأ تفاصيل اللقاء الأخير مع الشيخ مطيع الرحمن نظامي يجد أن ولياً من أولياء الله قد رحل عن عالمنا، وقد صدر عليه حكم بالاعدام على موقفه ضد انفصال باكستان الشرقية (بنغلادش) عام 1971، رحل وهو لا ينتظر منا إلا أن يكون لنا موقف ضد الظلم.. انتظر من أمة نبيه أن ترفض هذا الضيم حتى لا يتعدى إلى الآخرين من بعده، فهل يكون لرسالته أي تأثير على من يؤمن بيوم الحساب؟ إليكم قصة اللقاء كما وردت على لسان نجله..
قبل صلاة المغرب بقليل من يوم الثلاثاء 10 أيار اتصلت سلطات السجن المركزي في العاصمة دكا بالسيد متو (سيكرتير والدي) لتخبره بموعد اللقاء في السجن، دون أن توضح أنها ستكون الزيارة الأخيرة. أدينا الصلاة ثم خرجنا إلى السجن مستقلين ثلاث سيارات، والأسئلة حول طبيعة الزيارة تساور أذهان جميع أفراد الأسرة. كنا 26 نفراً (رجالاً ونساء وأطفالاً) وصلنا إلى بوابة السجن مخترقين طوابير مكتظة من الإعلاميين ورجال الأمن، تعدّينا البوابة الكالحة وأكملنا إجراءات التفتيش، عند ذلك قدمت إلينا إدارة السجن خطاباً مختصراً بأن اللقاء هو لقاء الوداع الأخير.
بعدها تم اقتيادنا إلى غرف معزولة في السجن، كان الوالد في الزنزانة رقم ثمانية، آخر الزنازين في تلك الأروقة، وحجمها ثمانية في ثمانية أقدام.. ليس فيها أي شباك أو فتحة تهوية سوى الباب الحديدي. لم يخبروا الوالد بمجيئنا، وعندما وصلنا قريباً من غرفته لاح لنا من خلال القضبان. 
كان جالساً على سجادة خضراء بسيطة متجهاً نحو القبلة، مولياً ظهره إلى الباب، رافعاً يديه بالدعاء، يناجي ربه بنفس النبرة وبنفس الأدعية التي كثيرا ما سمعناه يرددها منذ نعومة أظفارنا.. ما هذا؟ قطة في غرفة من سينفذ فيه حكم بالاعدام خلال بضع ساعات؟ نعم رأينا قطة صغيرة تجلس إلى جانبه، كأنها تشاطره وحدته وتشاركه دعاءه.
عندما رأى معاذ ذو الثلاث سنوات جدّه صاح معتلياً سلم الباب: جدّي! نحن هنا، افتحوا الباب. مسح والدي وجهه بيديه ملتفتاً إلى مصدر الصوت. عندما رآنا جميعاً قام وتقدم إلينا بمشيته الهادئة المعتادة سائلاً: لقد جئتم كلكم؟ هل هذا هو لقاء الوداع؟ ردّت أختي بصوت تعلوه الأحاسيس: لا لن يكون الأخير إن شاء الله. 
ساد الجو حزن ثقيل، وفارقت الدموع مآقينا جميعاً سوى الوالد.. بدأ يطمئننا ويواسينا، ويقول اثبتوا واصبروا.. كان يلبس قميصاً وإزاراً بنغالياً تقليدياً، وكان متعرقاً بغزارة لأن الزنزانة ليس فيها أي تهوية، والجو حار والرطوبة عالية؛ لكن وجهه كان متلألئاً يسوده الوقار.. لا يمكن من يراه في تلك اللحظة أن يصدق أنه مقبل على المشنقة بعد قليل، ربما لأنه كان يقبل على ربه بقلب سليم.
طلبنا من إدارة السجن أن تفتح باب الزنزانة فلا نكاد نراه جيداً من خلال القضبان، استجابوا للطلب وخرج الوالد إلى الفناء الصغير وجلس على كرسي بلاستيكي أبيض، وجلسنا حوله على الأرض بشكل شبه دائري.. بدأ يستفسر عن أحوالنا جميعاً، ثم بدأ يوضح موقفه من آخر المراحل القانونية المزعومة، وهي طلب العفو من رئيس الدولة، فقال: لقد سألني مدير السجن عن موقفي من طلب العفو، فأخبرته بأنني لم أرتكب جريمة حتى أطلب العفو، فطلبي للعفو اعتراف ضمني مني بارتكاب الجرم.
ثم إنني مؤمن بأن الموت والحياة بيد الله جل وعلا، ولا أريد أن أخسر إيماني بالله بطلب العفو من عبد مثلي كائناً من كان. وفي ظهيرة هذا اليوم أتى المدير العام للشرطة وقدّم لي ورقة وألحّ حتى أسترحم الرئيس. أخذت منه الورقة وكتبت عليها بخط عريض: «لم أقترف ما اتهمتموني به ولن أطلب العفو ولن أسترحم أحداً إلا الله».. مرة أخرى ساد المكان حزن وصمت، وبدأ الوالد يهدّئ من روعنا.
ثم خرجت الأسرة كلها وتركنا الأبوين لوحدهما لمنح فرصة للوالد إن كان يريد أن يخص أمنا بحديث أو وصيّة.. سمعنا كليهما يطمئن الآخر، سمعنا الوالدة تثبته وتشد أزره قائلة: لقد أكرمك الباري عز وجل بالشهادة في سبيله.. نحن كذلك نشهد أمام ربنا بأنك كنت تقياً أميناً لم تخن ولم تقترف جريمة.
أما هو فكان يشجعها قائلاً: أنتِ الآن بمثابة الأب والأم للأسرة، وسوف تجدينني في شخص كل طفل من أطفالنا. دخلنا الزنزانة مرة أخرى وقدم لنا الوالد نصيحته الأخيرة قائلاً: «عليكم باتباع تعاليم الله وتعاليم نبيه الكريم |، عليكم بالعناية بوالدتكم، وسوف تجدونني في شخصها، وثقوا أن أمكم سوف تجدني فيكم جميعاً إذا سرتم على الصراط القويم. أذكروني عند الآخرين كما وجدتموني ولا تبالغوا.. لقد عشت بينكم خمسة وسبعين عاماً، وإن عدداً كبيراً من أقراني وزملائي لم يجد فرصة للعيش كما أوتيتها، كما أنكم عشتم مع والدكم فترة أطول بكثير من أبنائهم.. تأكدوا أن الموت والحياة بيد الله وحده، ولو كتب الله أن أرحل إليه الليلة فسوف أرحل وإن كنت معكم في البيت.. كونوا على ثقة وتفاؤل كبير برحمة ربكم، وكونوا من عباده الشاكرين.
ظل مطيع الرحمن ثابتاً ومتماسكاً طوال فترة لقائه مع أسرته، قدمنا إليه ثلاثة من حفدته الذين سميناهم باسمه (مطيع الرحمن نظامي) وطلبنا منه أن يدعو لهم ليكونوا مثله، ابتسم قائلاً: أرجو من الله أن يكونوا خيراً مني وأن يسلكوا طريق النبي | وصحبه الكرام، ثم سرد لنا قصة أحد العلماء مع ابنه..
قال العالم الكبير لابنه: ما هدفك في الحياة؟ أجاب الابن: أتمنى أن أصبح عالماً كبيراً مثلك. ما إن سمع إجابة ابنه حتى انخرط الوالد في البكاء. سأل الابن أباه مستغرباً لماذا تبكي يا أبي! فقال العالم الكبير: كنت في مثل عمرك أتمنى أن أكون في العلم والتقوى مثل سيدنا علي رضي الله عنه، وأنت ترى البون الشاسع بيني وبينه، فافهم يا بني سبب بكائي على الإجابة واختر لنفسك قدوة.
ثم أشاد الوالد بأخي الأكبر مؤمن وقال هو أكثر مني علماً، وكنت أسأله عن المراجع والأدلة حول كثير من المسائل. قلنا بحسرة: يا أبانا لم نستطع أن نفعل من أجلك شيئاً كثيراً.. فأجاب نحن بشر نقوم بما نملك وإلى الله وحده الأمر من قبل ومن بعد، كان من الممكن أن أموت مبكراً أشعر أني محظوظ؛ إذ رزقني الله الشهادة في سبيله دون أن أخوض ميادين الوغى.
ثم بدأ الوالد يقرأ السلام على جميع المسلمين الذين وقفوا معه.. بدأ يشكر جميع علماء الأمة وقادة العمل الإسلامي، موصياً أن نبلغهم شكره وتقديره، ونرجو منهم الدعاء بأن يتقبل الله شهادته. التقطت أمنا خيط الحديث، وقالت: «لقد أكرمك الله في هذه الدنيا وسوف يكرمك في الآخرة بإذن الله». 
أكد الوالد ما قالت وأضاف: «كنت رجلاً عادياً من إحدى القرى النائية، ومن فضل الله علي أن العالم كله يقف معي بمن فيه كبار العلماء وأتقى عباد الله ومئات الملايين من الناس.. يبدون تعاطفهم معي، ويخلصون لي الدعوات ويحسون بالألم تجاه ما يحدث معي ومع إخواني هنا؛ حتى إن رئيسة الوزراء حسينة ألغت أخيراً زيارتها لتركيا لحضور مؤتمر القمة الإسلامية خشية أن يناقش معها القادة قضية إطلاق سراحي.
رجونا من الوالد أن يسأل ربه أن يجمعنا مرة أخرى في الفردوس الأعلى من الجنة، فكان رده الفوري التزموا الصراط المستقيم، وسوف نجتمع مرة أخرى في الجنة بإذن الله. رفع يديه ورفعنا معه أكفنا نتضرع إلى الله.. استمر يردد الأدعية المأثورة عن الرسول |، ثم بدأ يدعو بلغته الأم (البنغالية) وما ترك من خيري الدنيا والآخرة إلا سأله لنفسه ولأهله ولبلده ولبلاد المسلمين وللمسلمين عامة، وما ترك من شرور الدنيا والآخرة إلا استعاذ منها.
بما أني طبيب، وكثيراً ما رأيت حالات الموت، ورأيت كيف أن الذي يقترب أجله يتغيّر لونه ويعلوه الخوف ويتمنى لو يمدّ له في الحياة ولو لبضع ثوان.. إلا أني كنت الآن أمام موقف فريد.. وجه إلينا الوالد سؤالاً غريباً، قال: أيّ الملابس تقترح أن أرتديها وأنا أذهب إلى المشنقة؟ تجمّد الدم في عروقنا برهة، وأجاب أخي مبتسماً: ارتدِ القميص والسروال التقليدي.
لم تقترب منه أدنى معاني الخوف أو اليأس.. لقد رأينا أمامنا قلباً مؤمناً ونفساً مطمئنة وروحاً تواقة إلى لقاء الله.
في هذه اللحظات وهو في أرقى منازل الروحانية؛ يوجه إلينا سؤالاً آخر غريباً ومحيراً، من منكم سيذهب إلى ساتيا (قريتنا) ليشارك في جنازتي؟ أجبت أنا وأخي مؤمن. بدأ القلب الحنون يقول كعادته قبل أي سفر من الأسفار: كونوا حذرين وخذوا السيد متو (سكرتيره) معكم.. لا تأخذوا أمكم معكم الليلة، وأنت يا ابني مؤمن ارتد القميص والسروال عند ما تؤمّ الناس في صلاة الجنازة.
ثم أعاد علينا وصاياه بتقوى الله في السرّ والعلن، وأن نقرأ كتابيه للذين ألفهما في السجن (حياة النبي | في ضوء القرآن، ومن آداب الحياة) وأيضاً كتابه السابق (حياة المؤمنين في ضوء القرآن والسنة). خص أختنا الصغيرة (محسنة) بالحديث قائلاً: أنت آخر بناتي، وأنت أول من ناداني بكلمة «ابُّو»، كوني صابرة محتسبة متمسكة بحبل الله ولا تجزعي..
بعد ذلك بلحظات أنهى اللقاء بقوله: الآن انطلقوا، وأريد أن أراكم تذهبون أمامي برباطة جأش. عانقناه وصافحناه وودعناه حياً مبتسماً لنستقبله صبيحة الغد مرتدياً ثوب الشهادة.. استقبلنا نفس الوجه الهادئ المطمئن الذي ودعناه بالأمس، لم يتغيرّ شيء سوى أن الدم كان يسيل من أنفه..
أذكر أنه عندما خرجنا من السجن خرجت القطة اللطيفة وراءنا، كأنها قد أدت دورها. لقد أدت القطة دورها، فكيف بنا نحن البشر؟ هل نستمر في ترك المسلمين الأبرياء يقتلون ويشنقون في بلد مسلم ونحن لاهون عنهم؟