مهنا الحبيل

لا يوجد باحث منصف يُنكر أن مكتبة العلامة الشيخ يوسف القرضاوي، ومشهد حضوره الواسع من المحيط إلى الخليج العربي، ثم المهجر العربي في أوروبا، كان بحد ذاته أحد أبرز عناصر التشكيل الفكري للوعي الإسلامي المعاصر، وبالذات في رباعية الاعتدال والإصلاح والتجديد والصمود أمام المشروع الإسرائيلي المركزي، وفروع توظيفه الواسعة غربياً.
ولستُ هنا في معرض الرد على اتهام العلامة القرضاوي، والحملات التي تُطلق ضد الإسلاميين، التي دُعمت ورعيت بقوة من قبل واشنطن ولندن مؤخراً، فالحرب المجنونة التي تقضي بتصفية وإعدام الإسلاميين في العالم، لا توجد معها مساحة نقاش بحكم هستيريا المشاعر الشخصية التي تقودها.
كما أنني لا أطرح هذا المسار لتقديم تزكية مطلقة للعلامة القرضاوي، فهو يخطئ ويُصيب كغيره من العلماء، ولكن ذلك كله لا يمكن أن يلغي عمراً مديداً، وحصيلة ضخمة من مشروع الشيخ الذي قعّد فيه مسارات المنهج الجديد للوعي الإسلامي، والذي كان فيه إمامه بعد شيخه الإمام محمد الغزالي بلا منافس في تلك المرحلة.
غير أن العلّامة القرضاوي، بين سعة فقهه الخاص، وحكمة لسانه وسياسة علاقاته، وإدارته المبدعة للتوازنات التي يحتاجها إمام مثله، مع الجماعات والمدارس والدول والمجتمعات، حقق لمدرسته ومدرسة شيخه، اختراقاً تاريخياً لمنهج التجديد الإسلامي لأهل السنّة، الذي حورب بضراوة بعد صعود صحوة الخليج، في أوائل السبعينات، ومدارات الصراع المختلفة بين الضفة السياسية للإسلاميين والمختلفين معهم.
لقد كانت مدرسة الإمام القرضاوي، تواجه أربعة «أقانيم» تشدد ازدهرت في ذلك الحين:
الأول أن أمة أهل السُنة أمة مرتدة في تاريخ التشريع الإسلامي، بحكم أنها تمثل المدارس الكلامية الأكبر في الأمة، والمذاهب الأربعة، لزيغ عقائدهم وفساد فقههم المخالف للدليل بحسب الغلاة، أو لتصوف علماء التشريع الإسلامي، في طبقات المذاهب الأربعة.
وإنما يمثل منهج أهل السنة عند الغلاة، المدرسة التي انتسبت للإمام ابن تيمية رحمه الله متأخراً، وإن كان هذا ليس صحيحاً، فدائرة خلاف ابن تيمية مع مدارس أهل السُّنة الكبرى، لم تكن تتجسد كما جرى في القرون الأخيرة، كمدرسة انفصالية عنهم.
إنها مسلك سلفي لاختيارات الإمام ابن تيمية، التي أثرت عليها نزعات الصراع والحصار، حين حوصر بها من بعض الأشاعرة، فطغت تلك المعارك على بعض الفتاوى، واقتطعت من فهمه الكلي، ولم يكن ذلك مقصده لو تم استعراض ما فصّله في مواضع أخرى، وهذا لا يزكيه من نزعة تشدد رحمه الله، لكن لا يسقطه ويبرر حملات الاستهداف له التي تُقلب سياسياً بحسب ظروف الاستبداد الغربي والعربي مع المسلمين.
«الإقنيم» الثاني الذي واجهه الشيخ القرضاوي، هو تصنيف المسلم ودائرته، وحصره بجماعات دعوية من هنا وهناك.. فضم الناس إلى صدره بسلاسة فقهه وتداخله مع المسلم غير المتحزب، وقد أفاد كثيراً من استقلاله عن هذه الحزبية لمصلحة الفكر الإسلامي ومصلحة الأمة، وحتى مصلحة ثقافة أفراد الجماعة ذاتها، التي عجزت أن تكوّن أي منبر مواز للشيخ، وانغلق قطاع منها في خندق فقه الدعوة الحزبية لعقود، فساهم منبر الشيخ في نشر الثقافة الإسلامية لكل المسلمين.
وكانت الحركات الثقافية العربية المتعددة، تجد مع الشيخ مساحة مشتركة كما هو الإنسان العربي في الخليج والمحيط، فالدين ومفاهيمه وثقافته، حاجة للإنسان العربي بل والعالم، لكن رياح الصراع لما بعد حروب نقض الربيع العربي، وعودة الاصطدام مع الأحزاب الدعوية، أضرت كثيراً بهذا المفهوم، وكانت خسارة للجميع.
«الإقنيم» الثالث الذي واجهه الشيخ القرضاوي، رفض مفهوم الإسلام والحياة والإسلام والإنسان، حيث كان المجتمع العربي يواجه رياحاً شرسة، تفرض عليه نماذج تديّن متحجّر تعزل المسلم عن حيوية الفطرة وطبيعتها، وعن ممارسة المباح الذي اقتُلعت أكثرُ مساحته من فقه غلوّ قاس اضطهد المجتمع وحرّم عليه بعض ما أحله الله، وأوجب عليه مندوبات، ووضع المكروهات في مقام الحرام المقدس، وطارد كل متنفس يُتأول فيه فجعله منكراً، يحشد الناس عليه ويحرضهم على من يمارسونه، فكان الناس يقصدون العلامة القرضاوي لترتاح أنفسهم وضمائرهم، ويهتدون إلى الاعتدال.
أما «الإقنيم» الرابع، فهو الفكر الإصلاحي والحواري، من الوجوديات والشكوك وأسئلة العصر الغربي الحديث، فيجدون الحوار لا التكفير، والاستيعاب لا المطاردة، والاحتواء لا التحريض على الشباب لمجرد بروز أسئلة وجودية لديهم.
وركز الشيخ القرضاوي على منهج الإسلام في العدالة السياسية التي استعاد بها ركناً كبيراً من فقه المقاصد، ومساحة التشريع الدستوري التي لم يعتن بها الإسلاميون وخاصة في مصر حتى جاءت أزمة وعيها، ففتح غيابها فرصاً لأعداء الربيع وأعداء مصر لإسقاطها، وفتح الطريق لحصار إسرائيلي جديد للأمة، وغلو يستغل الظلم في سيناء ليهدم استقرار التاريخ المصري.
إن استعراضنا منهج الشيخ وقواعد فكره الإسلامي، ليست فقط للرد على افتراءات يطلقها البعض ضد العلامة القرضاوي، لكن أيضاً للحاجة إلى المراجعات الضخمة في صفوف الوعي الإسلامي المُعَظِّم للشيخ، ومعالجة اختراقات الصحوة الخليجية للفكر الإسلامي المعاصر، لكي تُصحِّح الصحوة ذاتها، ويُصحّح سائر بناء الفكر الإسلامي المعاصر.
ثم أيضاً ليؤسس لعودة الإمام منبراً للعالم الإسلامي الحر، بعيداً عن أخطاء صدرت بانفعاله المخلص، أو بيانات مرتجلة في كل مسألة صراع سياسي يورّط فيها اتحاد العلماء، وهو الكيان المهم للإمام وللمستقبل الإسلامي، لعل الله أن يبلغ بعمره المديد ما تقرّ به عينه، بمزيد من التوفيق وانتصار فقه التجديد الذي رعاه طويلاً على الغلو الديني والغربي والاستبداد العربي.