العدد 1349 / 13-2-2019

هو المحبُّ المحبوب، لقد سماه وبحق الأستاذ عمر التلمساني الملهم الموهوب، وها آنذا أتناول هذ الجانب العظيم في شخصية حسن البنا؛ باعتباره أخصَّ ما يميِّز هذه الشخصية، وهو موضوع الحب في تكوين حسن البنا النفسي والعقدي والاجتماعي والتربوي والحركي.

لقد حقَّق حسن البنا نجاحاتٍ عظيمةً على المستوى الفردي والاجتماعي، فما سرُّ هذه النجاحات؟!

الجواب: إنه توفيق الله عز وجل، ومع أننا نسلِّم بصحة هذا الجواب إلا أنه يعطينا تفسيرًا دقيقًا؛ باعتبار أن هذا التفسير يتسم بالعمومية دون التفصيل والتحليل، مع إيماننا كذلك بأن توفيق الله- عز وجل- لا يُوزَّع بين خلقه خبطَ عشواء، كيف وهو سبحانه الحكيم العدل اللطيف الخبير: ﴿اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ﴾ الأنعام: من الآية 124

إن سرَّ توفيق الله له أنه كان محبًّا لله. لقد رباه منذ نعومة أظفاره على محبة الله. أحبَّ اللهَ فأقبلَ على الله علَّه يحفظه ويرعاه.

لقد عرف الله فأحبَّه، وهذه نتيجة حتمية لمعرفة الله، فمن عرَف الله أحبَّ الله، فهو سبحانه أهلٌ لأن يُحَبَّ لذاته أولاً، ثم لما يغذونا به من نعم، والعبادة الحقَّة هي معرفة الله.

ففي معنى قول الله سبحانه: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ﴾ قال ابن عباس: معناها إلا ليعرفون.

وآيات الله في القرآن مبثوثة، كلها تدل على الله، وتعرِّف بالله الأحد الخالق، وآياتُ الله في القرآن مُبيَّنةٌ، كلها تدل على الله، وتعرِّف بالله، وبآلائه وأسمائه وصفاته:

"وفي كل شيء له آيةٌ ***تدل على أنه الواحدُ".

وحسن البنا تربَّى على ذكر الله والتفكر في آيات الله الكونية والقرآنية، وسنته في خلقه وآلائه ونعمه على عباده ورحمته بخلقه أجمعين، فأثمر فيه ذلك محبةً صادقةً وعظيمةً لله جل شأنه على طاعته بحبٍّ وإعظامٍ وإجلالٍ وإكبارٍ، وأقبل على دعوته محبًّا لها متمنيًا أن تنتشر وتنتصر به أو بغيره، فأفنَى ذاته في طاعة الله، وأجهد بدنَه في الدعوة إلى طاعته، وبالجملة كان لله بكليته فكان الله له.

وهو قانون الله في خلقه وسنته بين عباده: "ومن ذكر الله ذكره الله".

ومن توكل على الله كفاه الله ﴿وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ﴾ ﴿لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ﴾، ﴿وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ﴾ .

لقد تعرَّض حسن البنا لهذا القانون لهذه السنن لهذه النفحات، فبارك الله في هذه الشخصية، بارك في عمره القصير وجهاده المتواصل في هذا الزمن القصير، فاستطاع في وقت مبكر أن يصل إلى درجة الاجتهاد في الفقه، وأن يحوزَ من العِلم والمعارف في أصول الفقه والدعوة ومعرفة السنن والأخبار.

نعم هذه المحبة الصادقة هي سرُّ نجاحه في دعوته ولا عجب، (فالدعوة إلى الله حبٌّ) كما أطلقها وبحق الحاج عباس السيسي عليه رحمة الله.

إن سرَّ نجاح حسن البنا في دعوته وسرَّ انتشار فكرته أنه أحبَّها حبًّا عظيمًا، وآمَن بها إيمانًا صادقًا، فكان على أتمِّ الاستعداد لأن يضحِّيَ بنفسه وبكل ما يملك في سبيل نجاح هذه الدعوة وانتشارها وانتصارها، وصدَقَ من قال: آمِن أنت بفكرتك أولاً.. عندئذ يؤمن بها الناس، نعم إن سرَّ نجاح البنا في دعوته أنه كان شخصيةً عظيمةً مُحبًّا للدعوة إلى الله، محبًّا لله الذي يدعو إليه، محبًّا للمدعوين الذين يدعوهم إلى الله فبادلوه حبًّا بحب، فكانت الاستجابة لدعوته والاتفاف حول هذا الداعية والقائد الذي جمعهم على الحب وقادهم بالحب.

تعالَوا بنا نستمع إلى شهادةِ واحدٍ من الذين جذَبَهم بالحبِّ وقادَهم بالحب إلى شهادة واحد من أصحابه الذين عاصروه ولازموه وتتلمذوا على يديه، فنستمع إلى الحاج عباس السيسي وهو يروي لنا قصة أول لقاء:

منذ أول لقاء بإخواني مع الأستاذ حسن البنا أحْسَست أنه شدَّني بأسلوب فذٍّ، وجذبني إلى قلبه بعاطفةٍ حلوةٍ من الحبِّ، الذي سرعان ما فجَّر ينابيع قلبي، وأطلق مسحوقَ عواطفي، وألهب مشاعري، وأيقظ موات حواسِّي، وأدركت يومئذ أن هذا الذي كان يعطِّل مسيرةَ روحي وانطلاق مشاعري هو الحب الخفي المستحي الذي وَجد من يكشف عنه الغطاء ويحرِّره من إساءةٍ، ويمسح عنه غبارَ الجاهلية،

وبدأتُ أسمع حسن البنا وهو يبدأ حديثَه بما أسماه "عاطفة الثلاثاء" بسبحات روحية صوفية عن الحبِّ في الله، يغوض بها في أعماق النفس والحس، يغذِّي بها القلوب، ويهدهد بها العواطف، ويعطِّر بها الأنفاس، ويشعل الحماس، وفي كل حديث يقدم باقةً جديدةً من فيوضات الحب في الله، وهو حين يتحدث إلى الإخوان يَغيب بروحه وعواطفه وحبِّه في ذواتهم، كأنما يتجاوب مع كل فرد منهم، فقد كان حديثه عن الحب في الله فريدًا وجديدًا على السماع والطِّباع

لقد جدَّد حسن البنا معانيَ الحب النقي التقي العفيف الشريف بصورته الرائعة حين استلهمه من أعماق التاريخ الإسلامي، فأشرقت به القلوب، ونَعِمت به النفوس، وأثمرت به الجهود، وجمع به الأمة، وهكذا عشنا في رحاب عاطفة الحب في الله تعالى، ننعم بها، ونغذي قلوبنا وآمالنا برحيقها الفوَّاح وأريجها المُنعِش للنفوس والأرواح، وإذا سخر الإله ناسًا لسعيد فإنهم سعداء.

لقد تفجَّرت ينابيع الحب في أعماقنا، وتجسَّدت حركةً وخلقًا في معاملاتنا، وأصبح الحب مشغلةً نفسيةً عميقةً في حياتنا، ولكننا كنا حديثي عهد بهذا الإشراق وتلك الأشواق، ولا تزال صورة الحب الجاهلي تصدُّنا خوفًا وخجلاً، كنا نقول في أنفسنا: هل هذا الشعور الجديد له ثوابت سابقة في صدر الإسلام؟!

وإذا كان كذلك فلماذا ظلَّ ويظلُّ حبيسًا مكسوفًا تتناجَى به القلوب على استحياء؟! ولماذا لا يصارع في معركة الإسلام العاطفية والروحية ويكشف عن مناجم العواطف المذخورة في أعماق النفوس الإسلامية المتدفِّقة في شرايين شباب هذه الأمة الحائرة المتعطشة لنمو الحب؟!