الشيخ نزيه مطرجي

شَتّان بين نِيَّة ونيَّة، وغايةٍ وغاية، وبين مَقْصَدٍ ومَقْصد. شتّان بين مَنْهومين يَتَسابقون إلى رياضِ الجنّة، وحَلَقات العِلم، لإرواء ظَمئِهِم إلى الذِّكر وإشباع شَوْقِهِم إلى العِلم، وبين مَوْهومين يتهافتون كالفراش على ذُبالة السِّراج، إلى صَدارةِ المجالس وناصِيَة المراكز. 
كان الصحابةُ الكِرامُ يتنافَسون على حُضور مَجالِس رسول الله صلى الله عليه و سلم، كلٌّ يريد قُربَه وَيْرجو وَصْلَه، كُلٌّ يُصيخُ إليه بسَمْعِه ويُصغي إلى قَوْلِه بِفِكره وقلبه، فدعاهم ربُّهم إلى التواضع، وإلى أن ينشُزوا من أماكِنهم (ينهضوا) وأن يَفْسَحوا لِمن أرادَ مِن إخوانهم الجلوسَ ليتساوى الناس في نَيْلِ حظِّهم من النبيّ صلى الله عليه و سلم،، وأَخْذِ نصيبهم من هِدايته، ومن فسَح لإخوانه فَسح اللهُ له، وجعل له الفُسحة في الصَّدْر والرِّزق، وفي القبر ومقام الآخرة! 
وقد بيّن بعض المفسِّرين في قول الله تعالى: {يا أيها الذينَ آمَنوا إذا قِيلَ لَكُم تَفَسَّحُوا في المجالِسِ فَاْفْسَحوا يَفْسَحِ اللهُ لَكُم .... يَرفَعِ اللهُ الذينَ آمَنوا مِنكُم والّذين أُوتُوا العِلمَ دَرَجاتٍ} المجادلة- 11، أنّ الرِّفْعَةَ عند الله تعالى بالعِلم والإيمان، وبالتّواضُع وخَفْضِ الجناح، لا بالسَّبْق إلى صُدُور المجالس.
لقد كان النبي [ الذي وصفه ربُّه عز وجل بأنه رؤوفٌ رَحيم، وبأنه الشاهدُ والـمُبَشِّرُ والنَّذير، والسِّراج المنير، وبأنه رحمةُ اللهِ للعالَمين؛ وكان مِن تَواضُعِه أنه كانَ يُجِيبُ دَعوةَ العَبد، ويُصغِي إلى الأمَة، فلا ينصرف عنها حتى تَنصرِف، وكان لا يتميَّز عن أصحابه بل يشاركهم العمل، فكان يحمِلُ على عاتِقِه لِبناء المسجد، ويحفِر مَعهُم لإقامة الخَنْدَق، ويجمَعُ الحَطَبَ لإنضاج الطعام!
وكان رسول الله صلى الله عليه و سلم، يَجلِس حيث ينتهي به المجلس، ولكن حيثُ يجلسُ يكونُ صَدْرُ المجلس!
وفي هذا الأدبِ النَّبَوي الـمُشرِق درسٌ وأُسوةٌ لعُلَماء المسلمينَ وقادَتِهم ليتمثِّلوا خُلُقَ التّواضع، وقد نَدَبهم ربُّهم إلى ذلك في قوله: {فسوفَ يأتي اللهُ بِقَومٍ يحبُّهُم ويحبُّونَهُ أذِلّةٍ على المؤمنينَ أَعِزَّةٍ على الكافرينَ يُجاهِدُون في سبيلِ اللهِ ولا يخافونَ لومَةَ لائم} المائدة- 54 ولكنّ واجبَ المسلمين أن يُكرِمُوا أَهلَ الفَضْل، وأن يُقدِّمُوا أهْلَ العِلم، كما تعلِّمُنا السيرةُ النَّبوية، وإنّما يَعرِفُ الفَضْل لأهْلِ الفضْل ذَوُو الفَضل!
كان الصحابةُ يجلسونَ حَولِ رسولِ الله [ على مراتِبِهم، فالصِّدِّيقُ يُجلِسُه على يمينه، وعُمرُ عن يسارِه، وبينَ يَدَيْهِ عُثمان وعليّ، لأنهما كانا من كَتَبَةِ الوَحْي، وقد روى ابن مسعود أنّ الرسولَ صلى الله عليه و سلم، كان يقول: «لِيَلِنِي مِنكُم أُولو الأَحلامِ والنُّهى ثُم الذينَ يَلُونَهم، ثم الذين يَلُونَهم» رواه مسلم.
ولكنّ ذَوي الفَضْلِ لا يطلُبُون التكريمَ لِأنفُسِهم ولا يُجاهِدون من أجل ذلك؛ ولاَ يحِلُّ لمسلمٍ وإنْ كانَ مِن العُلماء أو الفُضَلاء أن يُقيمَ رجلاً من مَقعَدِه ليجلِس فيه، لحديث الرسول صلى الله عليه و سلم، «لا يُقِم الرَّجُلُ الرَّجُلَ من مجلِسه ليجلس فيه، ولكن توسَّعوا وتفسَّحوا» رواه أحمد.
إذا تأمَّلتَ في مجالِسِ الصّدارة تجِد الدَّهْمَاء قد اسْتَبقوا إليها، لِما في مَكامِنِ النَّفسِ من عُقَدِ النَّقْص، ولِما في الأخلاقِ من تَطاوُلِ الأعناق! وإذا بحثْتَ عن الفُضَلاءِ وبخاصَّةٍ مِن ذوي الفاقة تجدُهُم قد أُلجِئُوا إلى السّاقة!
إنَّ مَنازلَ الصَّدارة لا تُحْتَلُّ بالـمُصادَرة ولا بالـمُتاجَرة ولا بالاغتصاب، ولكنها تُبذَل لِمَن هو حَقِيقٌ بها وأهلها. ومِن أقبحِ الأشياءِ أنْ يَرى المرءُ نفسَهُ رفيعاً وهو عند العالَمين وَضِيع! يقول الشاعر مُرشداً إلى التواضع: 
تَواضَعْ تكُن كالنَّجْمِ لاحَ لناظرٍعلى صَفَحاتِ الماءِ وهُوَ رَفيعُ
ولا تَكُ كالدُّخَانِ يَعْلُو بنفسهعلى طَبَقاتِ الجَوِّ وهُوَ وَضيعُ
فلا تُقصِّروا في إكرامِ الفُضَلاء ولا تَنخَدِعوا بأقنِعةِ الأدْعِياء، واحذَروا أن يَسرِيَ في عُروقِكُم داءُ الكِبرياء، فإن سادةَ الناسِ في الآخِرةِ الـمُتَواضِعُون الأتقياءِ الذينَ يجعلُ اللهُ لهم في الدُّنيا كَرامةَ الوُدّ، وفي الآخرةِ صِدْقَ الوَعْد.