الشيخ نزيه مطرجي

لا يسأمُ الإنسانُ من رَمْي الأَنام بفاحشِ الكلام وسوءِ الاتِّهام ، ومن ذَرابَةِ اللِّسان وتتبُّع عَوْرات الإخوان.
إن أكثر الناس تَقودُهم أَلْسنتهم لا أَدْمِغَتهم، ويسوقُهم مَنْطِقُهم إلى مصارِعهم لا إلى مصالِحهم، واللهُ تعالى يقول: {لا خيرَ في كثيرٍ مِن نَجْواهُم إلاّ مَن أمَرَ بصدقةٍ أو معروفٍ أو إصلاحٍ بين الناسِ ومَنْ يَفعلْ ذلك ابْتِغاءَ مَرضاتِ اللهِ فسَوفَ يؤتيهِ أَجْراً عظيماً} النساء- 114، فَلا خير في كثيرٍ مِن تناجي الـمُتَهامِسين، وأَحاديث المتسامِرين، وخطاب الـمُتكلِّمين والواعظين إلا إنْ كان ذلك مُنْبَعِثاً من صِدقِ النِّيَّة وسَلامَة الطّوِيَّة، وساعياً إلى نَفعِ البَرِيّة وخَيْر البشريّة، وقد وَرَد في الحديث الشريف: «كلامُ ابْنِ آدمَ كلُّه عليه لا له إلا ذِكْر اللهِ عَزّ وجل، أو أَمْرٍ بمعروفٍ أو نَهْيٍ عن مُنْكَر» رواه ابن مردويه.
إن الأَلسنَةَ السَّائِبة كَأشطان بِئْر في لَبانِ الشَّيطان، يَشُدُّها ويُرسِلُها كيف يشاء في كُلِّ وَقْت وآن! والـمُؤمن لا تطاوِعُهُ نفسه أن يُطلقَ لِلسانِه العِنان، وأن يُخْضِعَه لولايةِ الشّيْطان، وقد جاء في الحديث قولُ النبي صلى الله عليه و سلم: «لا يستقيمُ إيمانُ عبدٍ حتى يستقيمَ قلْبُهُ، ولا يستقيمُ قلبُه حتى يستقيمَ لِسانُه» رواه أحمد.
إن الرجال الغِلاظَ الشِّداد، وأصحابَ الأَلْسنةِ الحِداد، إذا وَقعوا على هفوةٍ عند أحد من الخُصوم أو الأصحاب، أو عَثَروا على هَنَةٍ، سَلَقوه بِألْسنَتِهم، ورَمَوْه بإقذاعِهم، ولم يَسْعَوا ولو يسيراً إلى طلب الحقيقة، فالحقيقة بنتُ البَحْث، وإنما تثبُت بالحُجّة لِيُسْفِر وَجْهُ الحق وتتَّضِحَ آياتُه، فإن الحق أَبْلَج، والباطلَ لَجْلَج! وكلُّ دَعوى لا تثبت بالدليل تسقط عن درجة التبيُّن، فلا ينبغِي للمؤمن أن يدّعيَ دعوى قبل أن يقتُلَ البُرهانَ عِلماً!
إن مما ابتُليَ به كثيرٌ من الناس أَنهم يُطلقون على كلِّ خَطّاءٍ وعلى كلِّ ساقطٍ في خطيئةٍ فاسقاً! وذلك من أجْل استدعاءِ الفَتوى بإهدار كرَامتهم، وإسقاطِ حُرْمَتهم، فهم يدَّعون جَوازَ ذِكر كُلِّ فاسقٍ بما فيه، ويستندون إلى الحديث: «لا غيبةَ لفاسق» وهو حديثٌ باطل! وإلى الحديث: «أَتَرْعَون عن ذِكْرِ الفاجر؟ (أي أَتَكُفُّون) اذكروهُ بما فيه يَحْذَرْه النّاس، وهو حديثٌ ضعيف لا يُعتدُّ به، فهذه إذاً أحاديثُ لا يَترتَّبُ عليها حكمٌ شرعيٌّ مُبِين، فلا تستباحُ بها أعراضُ المؤمنين!
وإذا أُجِيزت الغيبةُ فإنها تجوز في ثلاثةٍ، هم: الإمامُ الجائر، والفاسق الـمُعلِنُ فِسقه، والـمُبتدعُ الذي يدعو إلى بِدْعَتِه، غير أن غِيبَتَهُم تُقَيّدُ بما يَجْهرون به، وما يَدعُون إليه، ولا تتعداها إلى غيرها.
أما تَتَبُّع العورات وهَتْك الحُرُمات، وفَضْحُ ما خَفِيَ وما بان، فهو فُسوقٌ وعصيان.
إن الانهماك في الاشتغال بعيوبِ النّاس وأعراضِ العامّة والخاصّة، من الدَّهماء والوُجهاء، هو إعراضٌ عن مِنهَجِ السّداد، وإخلادٌ إلى رذيلة الفساد وسقوطٌ عن مَنَصّات الرشاد!
 إن من علامات السّعادة أن تكون حسناتُ العبدِ خَلْف ظهره، وسيئاتُه نُصبَ عَيْنَيه، ومِن علاماتِ الشقاوة أن يجعلَ حَسَناتِه نُصْب عينيه، وسيئاتِه خَلفَ ظهره، فطوبى لمن شغله عيبُهُ عن عُيوبِ الناس، وويلٌ لمن نسيَ عيبه وتفرَّغ لِعيوب الناس!
إن الـمُفرِّط في جنب الله الذي تكثرُ سيئاتُه عليه أن يَخْجَل من نفسه، وأن يستحيي من ربِّه، وأن يشتغل بإصلاح ذاته لا أن يُمضي جُلّ عمره في تقديم حسناته إلى سواه، وتحمُّل سيئات ضحاياه!
والذين يتبوَّؤون صَدارة القيادة، ويعتلون صهوة الوِلاية هم أكثرُ مَن يجعلُهم أهلُ السُّوءِ هَدفاً تُراش ُله السِّهام، فيكونونَ عُرضةً للمُؤْذِين، وطُعمةً للطّاعنين.
إن اتّهام النّوايا والطّعْن بالأعمال يُنال منك إن فعْلتَه أكثر مما ينالُ من خصومك ومحْسودِيك، ويكشفُ عن مساوئك أكثرَ مما يكشِفُ عن عيوب مُنافسيك، وينقُلُك من زُمرة العُقلاء والحُكماء إلى زمرة الجهلاء السُّفهاء!
فالعجَبَ العجَب كيف يَسْلم من الألسنةِ الحِداد الأعداءُ والأشْقياء، ولا يَسْلمُ منها الأَخِلّاء الأصْفياء؟ وكيف يَغُضُّ الـمُغرِضون الطّرف عن الظالمين وعن المـُقتصدين، ويَطعنون في الـمُحسِنِين السّابقين بالخيرات؟!