الشيخ نزيه مطرجي

إن للأمانةِ قُدْسيَّةَ وجلالاً، ألقاها في النُّفوس الـمَلِك القُدُّوس، وأنْزَلها في القلوب علّام الغيوب، والله تعالى جعل مَعايِشَ بني آدم في الأرض واسْتَعْمَرهم فيها، وبيَّن لهم أن الحياة لا تَعمُر إلّا بحِفظ الأمانة ونَبْذ الخِيانة، ولا يتمُّ ذلك إلا بأن تُوسِّد الأمور إلى أهلها وبمن كان حَرِيّاً بها.
وقد لفتَ النبي [ إلى عاقبة تضييع الأمانة في قوله: «إذا ضُيِّعت الأمانة فانتظر الساعة، قالوا وكيف إضاعتها؟ قال: إذا وُسِّد الأمرُ إلى غيرِ أهلِه فانتظر الساعة!» رواه البخاري.
إنَّ الأهليَّة لا تقوم على زكاةِ النُّفوس وطهارةِ القلوب وحدهُما، ولكن الأهلية كفاءةٌ روحيّة ودينيّة ودُنْيَويَّة، تُخامِر العقلَ وتُعانق القلب، وتُخالط الجسد. 
لما جاء الصحابيُّ الجليل أبو ذر الغِفاريّ رضي الله عنه الذي قال فيه النبي صلى الله عليه و سلم: «ما أقلَّت الغَبراء وما أظلَّت الخَضراءُ أصدقُ لهجة من أبي ذرّ ! وطلب من النبي صلى الله عليه و سلم قائلاً: ألا تستعملني؟ ضرب على مَنكِبَيه ثم قال: يا أبا ذرّ إنك ضعيف، وإنها أمانة، وإنها يوم القيامة خِزيٌ ونَدامة، إلا مَن أخذها بحقِّها وأدَّى الذي عليه فيها» رواه مسلم. إن يوسف الصِّدِّيق عليه السلام لم يُرشِّح نفسه لإدارة شؤون المال بنُبُوَّته وتقواه فحسب، بل بِحِفظه وعِلمه أيضاً كما جاء في قول الله تعالى: {قال اجْعلني على خزائنِ الأرض إني حفيظٌ عليم} يوسف-55. وهذا يُثبت أنّ إبعادَ الأكفأ والأَصلَح في كل ولاية أو وظيفة وفق مُقتضياتها ومُواصفاتها يُعدُّ خيانة ويُورِث نَدامة! وقد جاء في الحديث: «مَن استعمل رجلاً على عِصابةٍ وفيهم من هو أرضى لله منه فقد خان الله ورسولَه والمؤمنين» رواه الحاكم.
إن مِن سُنن الحياة أنَّ العمل إذا تولّاه أهلُه الصالحون له أورثَ نجاحاً وتوفيقاً، وأما العمل الذي يتولاه الجاهلون المتطفِّلون من أمثال طُفَيل الذي كان يأتي الولائم في الكوفة من غير أن يُدعى إليها فإن نهايته تُؤدي إلى الخَيْبة والإخفاق، والحَسرة والإشفاق!
وإذا كان إسناد الوِلايات إلى ناقصي الأهْليَّة وفاقِدي الكفاءة نذيراً باقتراب الساعة ونهاية الخَليقة، فإنّا إذا عهِدنا بالأعمال إلى الجاهلين أو الفاسدين الذين لا يَرْقُبون في مصالح العباد إلّاً ولا ذِمَّة نكونُ قد أوقَعْنا المجتمعَ في الـمَزالِق، وقذفنا به في لُجَجِ المهالِك!
إن الوظائف الدينيَّة هي فرعٌ من فروع الأمانة التي عَرضها الله على السموات والأرض والجبالِ وعلى النفوس الإنسانية حيث كانت في عالم الذَّرّ، فلا ينبغي أن يكون الموظف ظَلوماً جَهولاً بعد حَمْلِه الأمانة برِضا وطواعِيَة، فإذا تكلَّم وجب أن يصْدق في قوله، وإذا وعدَ لزم أن يَفِيَ بوعده، وإذا عامل الناس فعليه أن يهتمّ بخِدمَتهم، وأن يَرفُق بهم ويَتلَطَّف في مُعامَلتهم، فإن الرِّفق واللُّطف من الأُسس الـمُؤلِّفة للقلوب الناظِمة لشؤون البشر، فإذا عَلَت رُتبَتُه زادت إلى الرِّفق حاجَته وعَظُمَت مسؤولِيَّتُه، والرسول صلى الله عليه و سلم يقول: «إن شرَّ الرِّعاء الحُطَمَة» متفق عليه؛ وعليه أن يَجتهد في سُرعةِ إنجاز الأعمال، والعناية في أدائها وإتقانها، وعليه أن يتَعَفَّف وأن يَستَعْلِيَ على الـمُغرِيات وأن يَحذر من الانزلاق في مُنحَدر الشُّبُهات والـمُحرَّمات.
إن طُلاب الآخرة منهم مَن يعمل على الأجر والثواب، ومنهم من يعمل على الـمَنزلة والدَّرَجات، فالعُمال يعملون على الأُجور، والعارِفون يعملون على المنازل والمراتب، والزُّلفى من العزيز الغَفور! كذلك في دُنيانا التي استُؤْمِنّا على عِمارَتِها وحُسنِ إدارتها، ينقسم الناس في هِمَمِهم ومَطالِبهم، فمنهم الأُجراء الخامِلون الذين يُحمَلون على أداء واجبهم كما يُحمَلُ العجوز المتهالك لأداء المناسك! ومنهم الأُمناء المحسِنون الذين يجدون في إتقانِ الأعمال لذَّة السعادة ويبتغون بإخْلاصِهم الحُسنى وزيادة!
ومَن يوقِنُ منكم أنه لا يصلح لما أُسنِد إليه من وظائف فإن عليه أن يتحرَّر من الطَّمَع، وأن يتحلَّل من العمل خَشْيَة أن تحلَّ به ساعةُ الفشل، وتُرخِي عليه سُدُولها خَيبةُ الأمل، فيكون من الخاسرين ويكون مُوَلِّيه من النّادمين!>