الشيخ نزيه مطرجي

المواعظ الوازِعة كالسِّياط الموجِعة، تقع على نِياطِ القُلوب فتُحدِثُ آثارها في صُدورِ الواعِظين والسَّامعين، وتتركُ ظِلالَها في نُفوس الـمُحدِّثين والـمُتَلقِّين، فإذا لم تنطَلق الموعِظةُ من ألْسِنةٍ صادقة، ولم تخرُج من قُلوبٍ خاشِعة، زلَّت عن القُلوب كما يزِلُّ القَطْرُ عن الصفا، وقد قيل في وجوب صِدق الواعظين:
مواعظ الواعِظ لن تُقبَلا حتى تَعِيَها نفسُهُ أوّلا
العارفون من الدُّعاة أكثر من الواعِظين، والواعظونَ أكثر من الصَّادقين، والصَّادقونَ في امتحانٍ عظيم.
إن مما لا يخفى ما تخَوِّف منه النبي صلى الله عليه وسلم على أمَّته، وهو أن يظهرَ فيهم النِّفاقُ  الذي يدلُّ عليه الذين يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما يُنكرون، كما جاء في قوله: {إني لا أتخوَّف على أمَّتي مؤمناً ولا مُشركاً.. ولكن أتخَوَّف عليهِم مُنافقاً عالِم اللسانَ يقولُ ما تعرِفون ويعملُ ما تُنكِرون} رواه الطبراني والبزّار.
في صدر النبوّة والعصور التي تلي يزْدَهِر زمَنُ الحوارِيِّين الذين يَصْدُقون ويُخلِصون الوجهَ لله، ثم يؤول الأمرُ إلى أهلِ الرِّياءِ والنِّفاق، كما جاء في الحديث: «ما بعثَ الله نبياً إلّا ولهُ حواريون، فيمكث النبي بين أظهرهم ما شاء الله تعالى.. حتى إذا قبض الله نبيه مكث الحواريون يعمَلُون بكتاب ِالله وسنة نبيِّهم، فإذا انقرضوا كان من بعدهم قومٌ يركبون رؤوس المنابر، يقولون ما يعرفون ويعملون ما يُنكرون، فَحَقَّ على كلِّ مؤمنٍ جهادُهم بيدِه، فإن لم يستطع فبِلِسانه، فإن لم يستطع فبِقلبِه، وليس وراء ذلك إسلام» رَوى مسلمٌ نحوه.
إن الكذب أمُّ الرذائل ورأس القبائح، ولكن يُخطئ مَن يظُنُّ أنَّ الكذبَ محصورٌ في دائرةِ ما يأتي به اللسانُ من الأقوال، ولا يلتفتُ إلى ما هو أعظم خطراً، وأشدُّ ضرراً، وهو الكذب الذي يتعلق بما تأتي به الجوارح من الأفعال! وكما قال أحدهم: يستطيع كاذِب الأفعالِ أن يخدَعك ألفَ مرةٍ قبل أن يخدعك كاذب الأقوال مرة واحدة! لأنه لا يكتفي بقولِ الزُّور بلسانه حتى يُقيم على قضيَّتِه بيِّنةً كاذِبةً من حرَكاتِه وسَكَناته.
كان لعالِمٍ واعِظٍ مجلسٌ للوعظ، فنظر يوماً إلى مَن حوله وهُم خلقٌ كثير، وما مِنهم إلا من رقَّ قلبُه أو دَمَعتْ عيناه، فقال في نفسه: كيف بك إن نَجا هؤلاءِ وهلكتَ أنت؟ ثم قال: اللهم إن قضيتَ عليَّ غداً بالعذاب فلا تُعْلِم هؤلاء بعذابي، صيانةً لكرمك لا لأجلي، لئلّا يُقال: عُذِّب مَن كان في الدنيا يدلُّ عليه.
إن الداعين إلى الله يُمتَحنون كل يومٍ في أفعالهم ومعاملاتهم! وكثيراً ما تأتي صُوَر الأفعال نماذجَ شَوهاءَ وأمثلةً عَوْجاء تَطعَنُ في الدِّين وتنزع مِن صُدور العوامِّ اليقين!
ولسنا نرى مَثلاً على كذب الأفعال أكثرَ جلاءً من دُعاةٍ إذا ما أصابَتْهُم سيئة مسَّت كبرياءهم أو حلَّت بهم مضرّة أنْقَصَت أقوالهم، أو زاحَمتْهم مُنافسةٌ أفقَدتْهم سُلطانهم، انْطَمَس الحق عليهم فاخْتلّت مَوازينُهم، وساءت أخلاقُهم، وانْكَشفت معادنُهم، وافتُضِحَت حقائقهم، وفسدت قُدوتهم، وجرَّهم ذلك المصاب إلى استِحلال ما حرّم الله من انتهاكِ الأعراض والحرمات، وسوءِ الظَّن والاتِّهام، والفاحِش من الكلام...
وهكذا حينما يُمتحنُ كثيرٌ من الدعاة في ما يَعِزُّ عليهم من متاع الحياةِ الدُّنيا وحُظوظِ النفس، يحيدُون عن مِنهَج السَّداد، وتُسقِطُهم جناياتُهم عن مَنَصّات الرَّشاد، وتَغْدُو الشَّكوى المؤلمة التي تقول في العامة: الإسلامُ مَحجوبٌ بالمسلمين! تقول في الخاصّة: الهَداية محجوبةٌ بالدُّعاة إلى الدِّين لأنهم في الحقيقةِ دُعاة لا هُداة!
فيا دُعاةَ الإسلام! حذارِ أن تكونوا من عُلماء السُّوء الذين قيل فيهم: إنهم جلَسوا على باب الجنة يَدْعُون إليها الناسَ بأقوالهم، ويدعونَهم إلى النارِ بأفعالِهم فكلَّما قالت أقوالُهُم للناس هلُمُّوا! قالت أفعالُهم: لا تسمعُوا منهم، فلو كان ما دعَوا إليه حقاً لكانوا أوَّل الـمُستَجِيبين له، فهُم في الصورة أدِلّاء وهم في الحقيقة قُطّاع طُرق!
فليت جَمْعَنا يبلغ بنا رُتبَةَ الدّعوة، ويحقِّقُ منزلةَ الهداية!>