الشيخ نزيه مطرجي

طوبى لمن لبّى نداء النبي [ واسْتًجاب، وتعرَّض بسُلوكه لِدُعائِه الـمُستَجاب، وتخلَّق بالسُّهولة، وتحلّى بالسَّماحة، واتَّعظ بما بشَّر به نبيُّ الهُدى والرَّحمة السُّمَحَاء من أمته بقوله: «رَحِمَ اللهُ رجُلاً سَمْحاً إذا باع وإذا اشترى وإذا اقتَضى»  رواه البخاري، فبيَّن أن الله تعالى «يحبُّ سَمْح البيع، سَمْح الشِّراء، سَمْح القضاء» رواه الترمذي.
إن المؤمن هيِّنٌ ليِّن كالجَمَل الآنِف، إن قِيدَ انْقَاد، وإن أُنيخَ على صخرةٍ استَناخ، والجملُ الآنفُ يأْنَفُ من الزَّجر والضَّرب، ولا يُحْوِج صاحِبَه إليهما أو إلى أحدِهما.
إن للتربيةِ النَّبوية أثرَها البالغ في خُلُق السَّماحة ولِينِ القلب وسُهولة النفس، والبُعد عن كل نَكَدٍ وشراسة وغِلظةٍ أو فَظاظَة. وقد كان النبي صلى الله عليه و سلم في سُهولَتِه المثلَ الأعلى في سماحة النَّفْس ولِين الطَّبْع، والله عزّ وجل وصفَه في قوله: {فبِما رحمةٍ مِن الله لِنتَ لهم ولو كنتَ فَظّاً غليظَ القلبِ لانفَضُّوا من حولِك} آل عمران-159؛ فما أيسرَ التحلٍّي باليُسر لمن تأسّى بالرسول الكريم صلى الله عليه و سلم، وما أسهَلَ التخَلُّق بالسُّهولة لمن اقْتَدى بالنبي الـمُفتَدى. فالبائعُ ينبغي أن يكونَ سَمْحاً في بيعِه، سَهلاً في معامَلته، كريماً في صِفاته.
إن الناسَ يُحبون البائعَ الـمُتَسامح، الطَّلْقَ الوجْه، الدائمَ البِشْر، ويميلون إلى اخْتِياره وتفضيله، لذا فإنه يَكثُر عليه الراغِبون ويَهوِي إليه الواثقون؛ أما البائع الفَظُّ النَّكِد، فالناسُ عن بابِه يَنْفَضُّون، ويتجافى عن مُعاملته الـمُشترون!
والسَّماحَةُ تَدعو الشَّاري كذلك إلى أن يكونَ سَهْلاً مع البائع، كريمَ النفس، لا يُكثِر من الـمُـساومة، ولا يُلِحُّ بالمجادلة.
ومن مُقتَضيات السماحة ثلاثُ فضائلَ هي من كريم المحَامد ولطيفِ المحاسن، وهي: الإنْظار والإعفاءُ والإقالة: الأولى والثانية دعا إليهما كتابُ ربنا في قوله: {وإن كان ذو عُسرةٍ فنظِرةٌ إلى مَيْسَرة، وأَنْ تَصَدَّقوا خيرٌ لكم إن كُنتم تعلمون} البقرة-280، هذه السماحة النَّدِيَّة التي جاء بها الإسلام تحُثُّ الدائن على إمهالِ الـمَدِين الـمُعسِر إلى زمنٍ اليُسْر، أو إلى إعفائه والتجاوز عنه!
فيا حُسنَها من خِصالٍ يومِض سَناها في ظلام الشُّحِ الـمُطاع الـمُتَّبَع! ويا طِيبَها من أنوار يعبَقُ شذاها في بَيداء الأثَرة وشَراهة الطَّمَع! ويا سَعْدَ مَن ينال جزاء المنّان على ذلك الإحسان! وقد جاء في الحديث: «حُوسب رجلٌ ممن كان قَبلَكم فلم يوجد له من الخير شيءٌ، إلّا أنه كان يُخالِط الناس، وكان موسِراً، فكان يأمر غِلمانه أن يتجاوَزوا عن الـمُعسِر، قال: قال الله عز وجل: «نحن أحقُّ بذلك منه: تجاوزوا عنه» رواه مسلم.
وورد أن أبا قتادةَ كان له دَينٌ على رجلٍ، وكان يأتيه يَتَقاضاه فيَخْتَبِىءُ منه، فجاء ذاتَ يومٍ فخرَج إليه، فقال ما يُغَيِّبُك عني؟ قال إني مُعسِر وليس عندي شيء! قال: آلله إنك مُعسِر؟ قال: نعم، فبكى أبو قتادة ثم قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول: «مَن نفَّس عن غريمِه أو عفا عنه كان في ظِلِّ عرش الله يوم القيامة» رواه مسلم.
وأما الإقالةُ فقد يحتاجُ البائعُ أو المشتري إلى فَسْخِ عَقْدِ البيعِ بعد تمامه لضرورةٍ أو لمنفَعَةٍ ولا يهْتدي إلى هذه الفضيلة إلا من جَنى ثمراتِ خُلُق السَّماحة، فقد ورد في الحديث قولُ رسولِ اللهصلى الله عليه و سلم : «مَن أقالَ مسلماً أقال الله عثْرَته» رواه أبو داود.
فلْيَسْتمْسِك بعُرى السماحة كلُّ بائعٍ وشارٍ، وكل مُتَقاضٍ وقاضٍ، ولْيَلْبَسوا رداءَها، ولْيتحَلّوا بِزينتها، أما مَن يريد أن يأخُذَ ولا يُعطي، ويسألَ الحِلمَ ويُنفِقَ الجَهْل، ويَطلُب العفْوَ ويَجنَحَ إلى العَسْف، فإنه أنانيٌّ منكوسُ القلب، لا يُرجى له من الناس العطف، فاحذَر أن تكون منهم!>