الشيخ نزيه مطرجي

لا ينبغي للقائد أن يقودَ أو يسود إلّا أن يكون قُدوة صالحة لأتباعه وجُنْدِه، وأُسوةً حسنةً لأنصاره وحِزْبِه، ومن يتولّى القيادة وليس عنده من هذه الأصول فَتِيل أو قِطْمِير، فهو فِتنة في الأرض وفسادٌ كبير!
إن مَن يتَبَوّأ القيادة يتوجب عليه أن يكون حَسَن الطريقة، مَرضِيَّ السِّيرة، مثالاً صالحاً في الأقوال والأفعال، وسائِر الأحوال، فإن توفَّر له ذلك رُشِّحَ ليكون وارثاً نبوياً وكَوكباً دُرِّيّاً يُستضاء بنوره، ويُهدَى برأيه وعقله! ومن كان كذلك مكَّنتْه سيرَتُه من أن يأسِر القلوب ويُداويها، وأعانَتْهُ حِكمَتُه على أن يُهذِّب النفوس ويُنقِّيها.
إن القائدَ الصالح الذي يسيرُ في الناس هذا المسير، تَخفِضُ له الإمارةُ جَناحها، وتُجرِّرُ إليه أذيالها، فيَدِينُ له مَن حَوله بالخُضوع والوَلاء، والوُدِّ والوَفاء. يَأْمرُ فيُطاع، ويَنصَح فيُسمَع له. إن مثَلَ القائد من  التابعين والـمُرشدين من الـمُسترشدين، كمثل العودِ من الظِّل، فكما أنه مُحال أن يفوح العود ويستقيم الظِّل، كذلك مُحالٌ أن يَعوَجّ المُرشد، ويستقيم المسترشدون، وأن يَعْوَجّ القائد ويستقيم التابعون، فإن فاقد الشيء لا يُعطيه، كما أن فاقد النور لا يُنير ولا يُستنارُ به.
القائد الصالح إذا كان في قومه بدا كأنه واحد منهم، لا يتميَّزُ عنهم بأي مَظهرٍ من مظاهرِ العُلوِّ والاستكبار، ولا يُميِّزونَه بأيِّ موقِفٍ من مواقِف التعظيم والإجلال!
وكيف لا يكون كذلك والرسول القُدوة صلى الله عليه وسلم، كان المثل الأعلى في التواضُع وخَفْضِ الجناحِ للمؤمنين، فحين كان الأعرابي يأتي من الباديةِ ليستمع إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، ينظر باحثاً متحِّيراً فيقول للقوم أمامَه: أيُّكم محمد؟! وكيف لا يتواضع الصالحون والله تعالى يُحبُّ الأتْقِيَاء الأخْفِياء الذين إذا حضَروا لم يُعرَفوا، وإذا غابوا لم يُفتَقدوا! بهم يُمحى الظلام، وتنجلي الفَتن عن الأنام.
إن القائدَ الصالحَ لا يتخذُ بطانَتَهُ مَطِيّةً تقودُه للوصول إلى جَنْيِ المَكاسب وتحقيق المآرب، ولا يتَّخِذُهم معارجَ عليها يَظهر لاكْتِساب الشُّهرة واعتِلاء المَجد، ولكنه يعُدُّ نفسه بمنزلة أيِّ واحد منهم، ولا يرغبُ بنفْسِه عن أنفسهم.. وليس ذلك ضرباً من الأساطير، أو نسجاً من خيال التفكير، بل ينطِقُ بذلك سِجِلُّ العِبَر، والواعِظ الصَّامتُ للبشَر، وأنه قد خرج من مِشكاةِ الحضارةِ الإسلامية مَواكبُ فريدة من القادة والعُلماء والأتقياء الذين خلّد ذِكرَهم الزمن، وكانوا أنجُماً زاهرة في سماء المجد، وغُرَّةً لامعة في جبين التاريخ.
ورَد في سير الخُلفاء والأُمراء أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما سمع بالطاعون الذي أخذ الناس بالشام كتبَ إلى قائد جُندهِ أبي عبيدة بن الجَراح يقول: إنه قد بدَت لي حاجة إليك لا غِنى لي عنكَ فيها، فإن أتاكَ كتابي هذا فإني أعزِم عليك أن تَركبَ إليّ... فقال أبو عبيدة: قد علمتُ حاجةَ أميرِ المؤمنين التي عرَضَت، وأنه يريد أن يستبقِيَ من ليس بباق! فكتب إليه: إني في جُند من المسلمين لن أرغَب بنفسي عنهم.. فإذا أتاك كتابي هذا فحلِّلني من عزْمِك، وائذَن لي في الجلوس. فلما قرأ عمر كتابَه فاضَت عيناه وبكى! فقال له مَن عنده: يا أمير المؤمنين! مات أبو عبيدة؟! قال: لا، إن أبا عبيدة بينما كان يُبَوّئ الناس مَنازلهم طُعِن، (أي أصابه الطاعون!) وتُوُفِّي رحمه الله!
يفتَقِد الناسُ القادة الصالحين في هذا الزمان في حَلَك الظلام، وصَوْلة فسادِ الأنام، َفَكم من قائد ظنَّه الناسُ زينةَ الرجال، ومحطَّ الآمال، ولكنه دارَ حولَ ذاتِه وشهواته فخيَّب الأمل، وسقطَ في الفَشَل، واستحقَّ الطَّرْدَ والعَزْل! وكم من قائدٍ كان حاكماً فرداً، لا يُقدِّر رأياً، ولا يتقبَّلُ نُصحاً، شِعاره: «ما أُريكم إلا ما أرى»! فكان مصيرُه الإسقاط والإبعاد!
وكم من قائدٍ قليلِ التُّقى، ضعيفِ الوَرَع، تفتقِدُه المساجدُ والمجالس، تشغَلُه سياسَة الدنيا، ولا تعنيه حِراسة الدِّين، نفَرت منه قلوب الصالحين!
إن مَن يبحث عن القائد القُدوة كمَن يبحث عن الظِّلّ في الهجيرة، وعن الرِّيِّ في سرابٍ بِقِيعَة! ولكن كما أن الأرض العَطشى يُحييها الظلُّ إن لم يُصِبها وابلٌ، فإن الأمة التي تَلِدُ قادتها كالمطر الذي يأتي بالخير أوَّلُه وآخرُه وظِلُّه ووابلُه! لقد بَرِم الناس بكثرة السادة، وتاقت أنفسهم إلى أهل القدوة في القيادة.>