الشيخ نزيه مطرجي

إن القلوب جُبِلت على حبِّ مَن أحسن إليها،   وبُغْض مَن أساء إليها، فالزارع لا يحصُد إلا ما زَرع، فلا يجني من الشَّوك العِنَب، ولا يسقي من الماء الأُجاج الشرابَ الزُّلال.
إن الـمُحسن يُعطي أكثر مما عليه، ويأخذ أقل مما له، فالإحسان عنده يفوق فِعل الواقف على خط العدل، يُجاوزُه صُعُداً إلى مقام الفَضل!
إن المرء يعجم عوده، ويختبر معدنه، ويُسبِل الستار عن خُلُقه وطبعه عند الخُلطاء الأقربين، فتنعكس حقيقته أمام ناظِريهم، كما تنعكس أجرامُ السماء على صفحات الماء! ومن الخُلَطاء الذين يُؤمر المسلم بحُسن معاشرتهم الذين يُجاورونه في سَكَن، أو يَصحَبونه في سفر، أو مُزاولة عمل، يقول الله تعالى: {واعْبُدوا الله ولا تُشرِكوا به شيئاً وبالوالدَين إحساناً، وبذي القُربى واليتامى والمساكينِ والجارِ ذي القُربى والجار الجُنُبِ والصاحِبِ بالجَنْبِ وابنِ السبيل} النساء-36، فالله أَوْصى المؤمنَ بإحسان المعاملة مع الذين ورَد ذِكرُهم في الآية، وبحُسنِ بِناء العلاقة مع مَن يمتُّ إليك بوشيجةِ قرابة، ومع الجار المسلم، والجار غير المسلم، ومع الجار الذي كانت مُجاوَرَتُه لك في الأسفار، والجار الصاحِبِ بالجَنْبِ: الذي صحِبَك إما رفيقاً في سفر، أو شريكاً في تعلُّم عِلم، ومَن له أدنى صُحبة الْتَأمَت بينَك وبينه، فعليك أن تَرْعى ذلك الحقَّ ولا تَنساه!
فالإحسان إلى المـُجاور من ثمرات الإيمان كما يُبيِّن النبي صلى الله عليه و سلم في قوله: «مَن كان يُؤمن بالله واليوم الآخر فليُحسن إلى جاره» رواه مسلم، وفي قوله: «ما زال جبريلُ يُوصِيني بالجار حتى ظنَنْتُ أنه سيورِّثه» متفق عليه.
ولا يكفي ذلك دلالة على صِدق الإيمان بل يتوجّب على المسلم أن يكُفَّ عن جاره كلَّ أنواع المـُؤْذِيات والمـَضرّات كما يدل الحديث الشريف: «واللهِ لا يُؤْمِن، واللهِ لا يُؤْمن، واللهِ لا يؤْمِن، قيل مَن يا رسول الله؟ قال: الذي لا يأمَن جارُه بوائقَه» متفق عليه. والجارُ السوء المـُؤذي لجيرانه هو مِن شرِّ البَرايا، وإذا سعى المصلِح إلى نُصح الجار المؤذي كان كمن يَحْلب قَرْن الشاة، أو يحرُث في صَفاة.
وليس حق الجار كفَّ الأذى عنه فقط بل احتمالُ أذاهُ والصبرُ على بَلواه، ومَن بلغت خَلِيقة الصبر عِنده كمالَها كان كمَن أحيا مَوؤُودة من قبرها كما ورد في الأثر!
ولا يكتمل حُسن مجاورة الخُلَطاء بذاك، فلا مَندوحة عن اللُّطف والبِرِّ وإسداء الخير والمعروف، وقد قيل: إن الجارَ الفقيرَ يتعلَّق بجاره الغنيّ يوم القيامة فيقول يا رب، سَلْ هذا لِم مَنَع معروفه عَنّي، وسدَّ بابه دوني؟!
إن من سعادة المرءِ المسلم في الدنيا الجارُ الصالح، والمنزل الواسِع، والمركبُ الهنِيّ، رواه أحمد. وفي هذه الدنيا خُلطاء يسعى الخَلق إليهم سعْي الأنام إلى الطعام، وأُناسٌ يفرُّ المرء منهم فِرار السليم من داء الجُذام!
يُروى أن أبا الأسْوَد الدُّؤَلي كان له بالبصرة دارٌ وله جارٌ يتأذى منه في كل وقت، فباع الدار، فقيل له: بِعتَ دارَك؟ قال: بل بِعتُ جاري ولم أبِع داري! فأرسلها مثلاً! و «بجيرانها تَغلو الديار وترخُصُ!»
لقد سرى في عروق مُجتمع المتجاورين من سُموم داءِ الفُرقة والجَفاء ما بدَّد الشَّمل وفرَّق الجَمع، وحلَّ في نفوس أعضاء المجتمع من ضُروبِ الأثَرَة والأنانية ما أضرَّ بهم، وفرَط عِقدَ نِظامهم.
إنك إذا أخذتَ دَور الواعظ الأمين والناصح الحكيم، ودعَوتَ الناس إلى جَمع الشمل ونَدَبتهم إلى التعاون جَمَحوا، أما إذا دَعوتَهم إلى حلِّ الأواصر وقَطع الوشائج فإنهم يُهرعون إلى ذلك ويَرْمُلون.
تعالوا نَغْسلْ عنا معرَّة القطيعة بالوِصال، والقَباحة بجميل الخِصال. ألا إنه ينبغي أن يكون للمُصلحين الصَّوتُ الأَنْدى، والكلمةُ الأعلى، فهُم الذين يَرْقُبون البلاء ويعرفون الأدواء، فيعملون على معالجة الداء بنافع الدّواء.>