العدد 1438 / 25-11-2020

خلال الأشهر الماضية علّق اللبنانيون آمالاً عريضة على مشروع التدقيق الجنائي الذي أقرّه مجلس الوزراء. فكان منتظراً أن يشكل المشروع مخرجاً للأزمات الكثيرة التي يرزحون تحتها. فحسب التصريحات التي أدلى بها المسؤولون عقب إقرار القانون، سيكشف التدقيق الجنائي الحسابات المصرفية للرؤساء والوزراء والنواب والقضاة والضباط والموظفين العامين داخل لبنان وخارجه. وسيكشف أيضاً مآل مئات ملايين الدولارات التي تمّ تهريبها إلى الخارج قبيل الأزمة النقدية وامتناع المصارف عن تسليم المودعين لأموالهم، وسيكشف المصارف والمتموّلين ورجال الأعمال الذين استفادوا من الهندسات المالية التي انتهجها مصرف لبنان خلال ثلاث عقود، فراكموا من وراء هذه الهندسات مئات ملايين الدولارات.

في البداية لم يصدق كثيرون أن مشروع التدقيق الجنائي سيسلك طريقه، "فاللّي بجرّب المجرّب بكون عقله مخرّب"، وقد سبق للسلطة على مدى عقود إقرار قوانين وإصدار مراسيم لايمر وقت طويل قبل أن يكتشف اللبنانيون أن تأثير هذه القوانين والمراسيم لم يتخطَ الحبر الذي كُتبت به. لكن هذه المرة كان الوضع مختلفاً، فالخطوات المتسارعة التي اتخذتها الحكومة بخصوص التدقيق الجنائي أقنعت شريحة من الشعب اللبناني أن زمن السرقة والفساد والإهمال والإثراء بلا سبب صار من الماضي، وجاء زمن المحاسبة والتدقيق والمراجعة واسترجاع ما ضاع من خزينة الدولة. الخطوات والإجراءات العملية دعمتها تصريحات متتالية ومتواترة من أعلى الهرم لأسفله على اختلافها بأن الوضع المتأزّم والمنهار لا يترك مجالاً لأي تأخير أو تقاعس، وإذا لم يتم تدارك الأمور بسرعة، واسترداد الأموال المنهوبة والمهرّبة والمسروقة واسترجاع الملايين التي استفادت منها المصارف وراكمت بفضلها وثرواتها، فإن الانهيار لن يُبقي ما يتنافس عليه أهل السلطة.

أسابيع أخرى عزّزت ثقة اللبنانيين وآمالهم بقرب الفرج، تمثّلت باختيار شركة تدقيق ذات سمعة دولية لتولّي مهمّة التدقيق الجنائي، والاتفاق معها، والتوصل لدفتر شروط يناسب الطرفين ولم يبقَ سوى أن تبدأ الشركة عملها.

اندفاعة السلطة لإجراء التدقيق الجنائي قابلته الشركة المكلفة باندفاعة مشابهة، فلم تتأخر عن البدء بعملها واستهلته بالطلب من مصرف لبنان السجلات والأرقام والحسابات التي تحتاجها للبدء بعملية التدقيق. لكن المصرف تأخر وتدلّع وتمنّع عن تسليم أي معلومات طلبتها شرطة التدقيق، مستنداً للسرية المصرفية التي ينص عليها قانون النقد والتسليف. تمنّع مصرف لبنان عن التعاون مع شركة التدقيق قابلته السلطة باستهجان وتنديد واستنكار، لكنها لم تُقدم على أي خطوة إجرائية حقيقية تُلزم مصرف لبنان بالتعاون مع شركة التدقيق. بل إن أصواتاً من القوى السياسية نفسها التي كانت رفعت لواء التدقيق الجنائي ساندت تعنّت مصرف لبنان وبدأت باجتراح المبررات له وأسبابه ودوافعه، وأنه التزم القانون، وأن كشف السرية المصرفية يؤثر على صورة لبنان الخارجية، ويغيّر وجهة نظامه الاقتصادي.. إلى آخر هذا الكلام الكبير الذي يتم استخدامه منذ عقود للتستر على السرقات والهدر والفساد في السلطة. وبين صامت ومستنكر، أعلنت شركة التدقيق فسخ العقد مع الدولة بسبب امتناع مؤسساتها (مصرف لبنان) عن تسليمها ما طلبته من معلومات. فطار التدقيق الجنائي وطارت معه هيبة الدولة، والأهم طارت آمال اللبنانيين بالفرج القريب.

اعتاد مناصرو كل فريق سياسي على اتهام زعيم الفريق الآخر بالفساد والسرقة والتسبب بمصائب البلد. لكن مسرحية التدقيق الجنائي كشفت أن الفساد في السلطة هو الدولة العميقة الحقيقية العابرة للطوائف والمحاور وهي التي تتحكم بمفاصل كل شيء. دولة متجذّرة نجحت على مدى عقود في التسلّل إلى جميع القوى السياسية. ربما تختلف في الكثير من الأمور، لكنها تتفق في الفساد، وهذا الاتفاق يعلو فوق كل اختلاف.

أوّاب إبراهيم