العدد 1392 / 25-12-2019

بالتوازي مع الحراك في الشارع والشعارات التي يرفعها المتظاهرون مطالبين بتحقيقها، هناك مسار سياسي يُفترض بالقوى السياسية أن تقوم به لينسجم مع مطالب هذا الحراك. خطوة يتيمة قامت بها السلطة استجابة لمطالب الحراك، هي استقالة الحكومة. وللدقة فإن هذه الاستجابة لم تأت من أركان السلطة المشاركة في الحكومة، بل من رئيسها سعد الحريري، بغضّ النظر عن النوايا التي دفعته لاتخاذ هذه المبادرة، وهل كانت استجابة مخلصة لمطالب الناس أم فرصة لمحاولة إعادة تشكيل المشهد السياسي لمصلحته.

الحريري الذي بدأ أنه أول المبادرين للاستجابة لمطالب الناس، بات اليوم أول المعطلين لمسار سياسي لبنان بأمس الحاجة إليه كي يستطيع الخروج من المآزق الكثيرة التي أوقعته السلطة بها. فالحريري منذ استقالته يمارس أداء لايليق بموقعه السياسي ولا بحجم كتلته النيابية ولا بالطائفة التي يمثل، في الوقت الذي مازالت بقية قوى السلطة تجد نفسها مضطرة للتعامل معه.

أنا لا أتحدث عن تقاعس الحريري -الذي مازال يرأس حكومة تصريف الأعمال- عن الدعوة لاجتماع مجلس الوزراء وتسيير شؤون العباد، بل عن عرقلته أي مسعى لتشكيل حكومة جديدة، سواء كانت تلبي مطالب اللبنانيين أم لا. فمنذ اللحظة الأولى لاستقالته رفع الحريري راية حكومة اختصاصيين مستقلين، وأنه لن يقبل إلا بها لترؤس الحكومة، وهو قدم ذلك على أنه استجابة لمطالب الشارع، بينما أركان السلطة الآخرين –الذين يحوزون الأغلبية النيابية بالمناسبة- يرفضون هذا الطرح ويصرّون على مطلب حكومة تكنو-سياسية. وقد أبدى أركان السلطة –باستثناء رئيس الجمهورية وتياره- تمسكاً بالحريري ورغبة بأن يكون على رأس الحكومة الجديدة، ليس حبّاً به، ولا ثقة بأدائه، لكن إدراكاً منهم بأن أي شخصية أخرى سواه أو لاتنال بركته ستعكس احتقاناً في الشارع السني، وستأخذ الأمور منحى مذهبياً ستكون له تبعات خطيرة في الشارع. وبدأت المشاورات السياسية تدور في حلقات مفرغة لا أفق لها، كانت أولى حلقاتها بامتناع رئيس الجمهورية عن تطبيق الدستور بالدعوة لاستشارات نيابية لأكثر من شهرين.

الحريري الذي استمر مشترطاً حكومة اختصاصيين مستقلين ليرأسها، كان يقول دائماً إذا كنتم لاتريدون ذلك فلتختاروا غيري ولا مشكلة لدي مع أي اسم. استجاب الآخرون ما قال فقدموا أسماء لشخصيات اعتقدوا أن الحريري سيقبل بها. التزم الحريري الصمت، وأبدى قبولاً شكلياً، لكنه سرعان ما حرك أدواته لحرق الاسم المقترح والإبقاء على الفراغ.

فلم يكد اسم محمد الصفدي يتسرّب إلى الإعلام مرشحاً لتكليفه ترؤس الحكومة، حتى بدأ تداول معلومات عن فساده وسرقاته، وسارت تظاهرات في مدينته طرابلس ترفع هتافات رافضة لتكليفه، فخضع الرجل واعتذر عن التكليف قبل حصوله. بهيج طبارة الذي كان مستشاراً للرئيس الراحل رفيق الحريري ووزيراً في حكوماته لم يستغرق الأمر سوى ساعات لحرق اسمه. رجل الأعمال سمير الخطيب الذي لم يكن يعرفه اللبنانيون، قيل إن الحريري وافق عليه. هذه المرة كانت وسيلة الحرق مختلفة، فبعد زيارته للرئيس سعد الحريري والوجوم الذي اصطنعه الحريري خلال وداعه، زار الخطيب دار الفتوى ليسمع من المفتي موقفاً بأنه ليس مرشحاً للطائفة، وأن عليه الاعتذار، وهذا ما كان.

الأمر نفسه قد يتكرر مع حسان دياب الذي أفضت الاستشارات النيابية إلى تكليفه. فبعدما قيل أن الحريري لايمانع بطرح اسمه، أحجمت كتلته النيابية عن تسميته في الاستشارات، وبدأت تحركات اعتراضية في الشارع من جمهوره، ولم تستقبله دار الفتوى حتى كتابة هذه الكلمات.

هل يصمد دياب، أم يكون مصيره كمصير من سبقه من أسماء عمل الحريري على حرقها؟ في جميع الأحوال هو أداء لايليق بموقع الحريري ولا بمن يمثل. فليمتلك الجرأة ويعلن أنه المرشح لرئاسة الحكومة، وليخض مفاوضات جدية مع القوى الأخرى حول شكل الحكومة، تساهم في إنقاذ ما تبقى من هيبة لهذه السلطة، أو ليخرج من المشهد، وليعلن عن اسم مرشح غيره يتبناه ويمنحه الغطاء السياسي والطائفي المطلوب، كما حصل سابقاً مع حكومة الرئيس تمام سلام. أما لعبة "يتمنّعن وهنّ راغبات" فلم يعد بالإمكان الاستمرار بها إلى ما لا نهاية.

أوّاب إبراهيم