أواب إبراهيم

أُضيفت مجزرة جديدة إلى سجل المآسي الطويل الذي تعاني منه أمتنا العربية والإسلامية، وتنزف منه في كل مرة دماً وكرامة. صور أطفال مجزرة خان شيخون لن تبقى كثيراً في ذاكرتنا، فسرعان ما سنقلب صفحتها كما قلبنا قبلها صفحات كثيرة لمجازر وجرائم ارتكبها النظام السوري. أيام قليلة ستكون كافية كي ننسى صور عيون أطفال انطفأت الحياة فيها يشهقون ويستجدون نَفَسَاً يعيدون من خلاله الحياة لقلوبهم.
وسائل التواصل الاجتماعي كما في كل مأساة، امتلأت بصور الشهداء مترافقة مع عبارات غضب واستنكار، وكادت هواتفنا الذكية تحترق من كثرة ما أنزلنا صوراً ومقاطع فيديو وتعليقات حول ما شهدته خان شيخون. هي أيام استثنائية في حياة هواتفنا وصفحاتنا الافتراضية، وسرعان ما سنعود لسيرتنا الأولى في نشر صور الطعام الذي أكلناه، والمطارات التي مررنا بها، وتبادل رسائل العشق والغرام والهيام بين الزوج وزوجه، وبين الحبيب وحبيبته، وبين العبد وربه، وكأن مخاطبة الخالق لاتصح إلا من خلال الشبكة العنكبوتية.
في ما مضى كنا نشعر بالعجز والانكسار بسبب عدم قدرتنا على مساعدة ومساندة من يتعرضون للظلم والقهر، وعدم استطاعتنا التخفيف من مآسي ومعاناة أقوام آخرين. فكان فِعْلنا يقتصر على تظاهرة غاضبة أو اعتصام استنكاري أو مؤتمر صحفي يعقده حزب أو جماعة أو هيئة، يكتبون كلمات للتعبير عن أقصى درجات الغضب والاستنكار، مطالبين بمحاسبة الظالمين. صحيح أن هذه الكلمات كانت تذهب أدراج الرياح، وفي بعض الأحيان لم تكن تجد وسيلة إعلامية لتنشرها، لكن ذلك كان أقصى ما نستطيع. أما اليوم، فمن الواضح أن التطور الكبير الذي بات يحيط بنا أصاب بشظاياه طريقة غضبنا واستنكارنا. فالتظاهر والاعتصامات وبيانات الاستنكار باتت موضة قديمة عفى عليها الزمن، وصار غضبنا لايتم الاعتراف به إلا إذا أذعناه في العالم الافتراضي، وحصلنا من ورائه على تعليقات وإعجابات الأصدقاء، لكنه لايمنح نَفَسَاً لطفل يختنق من غاز السيرين.
حال العجز الذي يشعر به كثيرون منا إزاء ما يتعرض له السوريون من قتل وخنق يعدّ إنجازاً كبيراً إذا ما قورن بالأداء الذي تقدمه الدولة اللبنانية التي استفاقت فجأة على حقيقة وجود مليون ونصف مليون نازح سوري على أراضيها، وتنبّهت لما يشكله هؤلاء من عبء على الاقتصاد والأمن، فبدأ رئيس الحكومة جولة مكوكيّة حول العالم يتوسل أموالاً لن تُستخدم لتحسين أوضاع النازحين، بل لتمويل موازنة تتجنب المساس ببؤر الفساد التي تعشِّش في إدارات الدولة. هذا الأداء الاستغلالي يستكمله وزير الخارجية بجولة يقوم بها على دول الانتشار، ويطلق من هناك تصريحات تنضح عنصرية وفوقية تجاه النازحين السوريين وكذلك الفلسطينيين. الأجهزة الأمنية تقارب أزمة الشعب السوري من زاوية لاتقل سوءاً، فدأبت على تنفيذ حملات دهم واعتقال لمخيمات النازحين، فالنازحون بالنسبة إلى هذه الأجهزة هم مشاريع خلايا إرهابية نائمة يجب رصدهم وملاحقتهم وإحصاء أنفاسهم والإطباق عليهم.
هذا الأداء السلبي لا يشمل النازحين فقط، فهو يطاول كل من تسوّل له نفسه تقديم العون والمساعدة للشعب السوري. وأنا هنا لا أتحدث عن المشاركة العسكرية كما يفعل البعض، لأن مصير هذه المشاركة سيكون الزجّ بأصحابها في السجون بتهمة الانتماء لعصابات إرهابية، إنما أتحدث عن تنظيم فعاليات مساندة للشعب السوري كجمع تبرعات مالية وعينية، والسعي لتأمين أوضاع إنسانية لائقة للنازحين. فمن التجربة تبيّن أن الدولة اللبنانية تُقابل بعين الريبة والتضييق كل من يشارك في هذه الفعاليات، في حين أنها تقابل بعين التجاهل آخرين يشاركون بقتل الشعب السوري.
ما تقدم لا يبرّر الركون والجلوس على مقاعد المتفرجين، فهناك الكثير لفعله. ووسائل التواصل الاجتماعي التي باتت تمتص غضبنا كالإسفنجة يمكن استغلالها ليس فقط لاستعراض عضلاتنا البلاغية في صوغ عبارات الحزن والاستنكار، بل للتواصل والتنسيق لتنظيم تحركات شعبية مساندة للشعب السوري ومنددة بما يتعرض له. ربما لن يصل صدى هذه التحركات لمن يتعرضون للقتل والاختناق والتهجير، لكنها ستكون مناسبة لتذكير من يعنيهم الأمر أن مشاركتهم في قتل الشعب السوري إلى جانب النظام مرفوضة ومستنكرة. كما أن فعاليات التضامن ستشكل رسالة للدولة اللبنانية أن النازحين السوريين ليسوا وحدهم.