العدد 1457 /14-4-2021

تحلّ هذه الأيام ذكرى اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية التي حصدت في طريقها أرواح قرابة 120 ألف شخص وجرح مئات الآلاف وتشريد قرابة مليون نصف داخل لبنان وخارجه. هذه الحرب التي اشتعل فتيلها في حادثة بوسطة عين الرمانة يوم 13 نيسان 1975 استمرّ سعيرها ينهش بلبنان وأبنائه حتى عام 1990 حين تمّ التوصل لاتفاق الطائف الذي أنهى الحرب لكنه لم يقترب لأسبابها.

النظام السوري الذي تولّى الوصاية على لبنان بعد انتهاء الحرب برضى وقبول عربي ودولي كان حريصاً على الإمساك بالأمن والسيطرة على مفاصل الدولة في لبنان، لكنه حرص كذلك على إبقاء عناصر الاشتعال بين اللبنانيين، تحتاج فقط إلى صاعق لتفجيرها، وهو كان دائماً يمسك بهذا الصاعق ويتحكم به.

اتفاق الطائف أطفأ نار الحرب لكنه أبقى على الجمر تحت الرماد، الذي يحتاج نفخة هواء حتى يعود إلى السطح من جديد يتسبب بحريق جديد. هذه المشكلة لم تكن فقط متعلقة فقط برغبة النظام السوري، بل كذلك بإرادة اللبنانيين أنفسهم، الذين لم يقوموا بأي مراجعة للحرب الأهلية التي دارت رحاها على مدى 15 سنة، ومحاولة تبيان حقيقة ما حصل في هذه الحرب، وتحديد المسؤولين عن الجرائم والمجازر والأخطاء التي ارتكبت طوال هذه السنوات. فاستسهلوا الأمور وتمّ التوصل لمخرج هو إصدار قانون عفو يشمل كل ما شهدته الحرب الأهلية، وتحوّل أمراء الحرب وقادة الميليشيات المسلحة بين ليلة وضحاها إلى سياسيين نواباً ووزراء ورؤساء. فبقيت الزعامة، لكن تغيّر المسمّى، فمن كان زعيماً في الحرب صار زعيماً في السلم، وطوت السلطة صفحة الحرب وكأن شيئاً لم يكن.

بلاد أخرى كثيرة شهدت حروباً أهلية كالتي شهدها لبنان، لكنها عالجت جراح الحرب بطريقة مختلفة. جنوب أفريقيا شهدت عقوداً من سياسة الفصل العنصري، والظلم الذي لحق بالسود من قبل البيض. هم أدركوا أن المخرج من أتون هذا المرحلة السوداء لا يكون بطي الصفحة و"عفا الله عن مضى"، فهناك ظالم وهناك مظلوم، ولا يمكن استكمال الحياة دون معرفة من هو الظالم ومن هو المظلوم، وأن أن يأخذا المظلوم حقه من الظالم، فتم تشكيل لجنة أُطلق عليها اسم "لجنة الحقيقة والمصالحة" كانت مهمتها مراجعة الأحداث التي شهدتها سياسة الفصل العنصري وتحديد المسؤولين عن الأخطاء التي حصلت وبينهم الكثير من رجال الشرطة، ثم تتم المصالحة بين المعتدي والمعتدى عليه بالاعتذار أو التعويض أو الاقتصاص.

أمر مشابه حصل في الجزائر. فالحرب الأهلية الجزائرية أو ما يطلقون عليه اسم "العشرية السوداء" التي اشتعل أوارها بانقلاب الجيش وإلغاء نتائج الانتخابات النيابية عام 1991 التي حققت فيها الجبهة الإسلامية للإنقاذ فوزاً كاسحاً، أدّى لصراع مسلح امتد قرابة 10 أعوام خلّف مئات آلاف القتلى والجرحى والمفقودين. نهاية هذه الحرب بطيّ صفحة الماضي، بل بالتوصل لقانون أُطلق عليه اسم "الوئام المدني" شكلّ مدخلاً لإلقاء الجماعات المسلحة سلاحها والعودة إلى كنف المجتمع.

مشكلة لبنان أن الحرب الأهلية التي تقاتل خلالها اللبنانيون انتهت دون أن تحصل أي مراجعة لها، ومعالجة الأسباب التي أدت إليها، وهو ما يتسبّب بعودة شبح الأهلية عند استحكام كلّ خلاف بين أركان السلطة. وعند كلّ محطّة يتمّ استحضار خلافات الحرب، فيتذكر كل فريق من اللبنانيين ما فعله به الفريق الآخر، مع ما تحمله هذه الذكرى من آلام وأوجاع.

قبل سنوات ودون مناسبة تذكّر أبناء منطقتي باب التبانة وجبل محسن في طرابلس أن حساباً مفتوحاً بينهما من زمن الحرب الأهلية، فشهدت المنطقتان جولات من المواجهات أدت لمقتل وجرح العشرات، ثم فجأة أُريد لهذا الجرح أن يُنسى وعاد أبناء المنطقتين إخوة في الفقر والعوز والحاجة. الحال نفسه يصح على الكثير من الخلافات التي يتمّ فيها استحضار جراح الحرب وآلامها، والسبب في ذلك يعود إلى أن جراح الحرب يُرد لها أن لا تندمل لاستخدامها عند الحاجة.

أوّاب إبراهيم