أواب إبراهيم

ينشغل المسؤولون هذه الأيام بالخلاف المستحكم حول تشكيل الحكومة. بعد التشكيل الذي من المستبعد أن يكون قريباً، سينشغلون بالبيان الوزاري وعقدة تشريع سلاح حزب الله. بعد الاتفاق على البيان، سيغرق المسؤولون بعشرات الملفات التي تنتظرهم، فمن الموازنة العامة، إلى الأزمة الاقتصادية، إلى مناقصات النفط والغاز، وحلّ مشكلة النفايات، ومكافحة الفساد، ويرافق كل ذلك تناتش قضية النازحين السوريين، واتهامهم بالتسبب بكل المشاكل السابقة. 
ملف وحيد كان قبل أشهر قليلة يتصدّر اهتمامات المسؤولين، لم يعد اليوم يجد مكاناً له على الرف، بعدما تم نقله إلى الجارور، وربما نقله البعض إلى غرفة الأرشيف، وهو ملف العفو العام.
قبل الانتخابات النيابية، كان هذا الملف يطبخ على نار حامية، وتلقى ذوو الموقوفين وعداً من مرجعيات سياسية بأن العفو قادم، وأنهم سوف يحظون أخيراً بعناق أبنائهم المظلومين. وكاد حرص المسؤولين على كسب ود وأصوات ذوي الموقوفين أن يؤدي إلى إقرار العفو، لولا أن عُقَداً طائفية وعنصرية اعترضت طريقه. وكما كان متوقعاً، بعد الانتخابات ليس كما قبلها، فتراجع اهتمام المسؤولين بالعفو، وبات جزءاً من الذاكرة.
ما غاب عن المسؤولين المنشغلين بحصصهم الوزارية، هو أن ملف العفو العام يمسّ عشرات آلاف اللبنانيين من مختلف الطوائف، الذين يشعرون بالظلم والغبن منذ سنوات، وإهمال هذا الملف بعد اهتمام انتخابي لا يعني عودة الأمور إلى نقطة الصفر فحسب، بل إنه انعكس على الموقوفين وأهاليهم سلباً، بعدما أدركوا أنهم تعرضوا للاستغلال والخداع من المتاجرين بمعاناتهم، وقناعتهم بأن الظلم اللاحق بأبنائهم باق ومستمر ويتمدّد.
في المقابل، وعِوض أن يسعى المعنيّون بعد عجزهم عن الوفاء بوعدهم بإقرار العفو العام العمل على التخفيف عن الموقوفين، والحرص على تسريع محاكماتهم، وإشاعة جو إيجابي لدى القضاة، يلمس وكلاء الموقوفين أجواء مناقضة تماماً، وتحامل من القضاة وتشدد في الأحكام وتسويف في الإجراءات القضائية لتأخير إطلاق سراح أي موقوف ثبتت براءته، والتمسك بشكليات لاعلاقة لها بروح القانون للتضييق على الموقوفين.
روايات كثيرة تسمعها من المعنيين بملف الموقوفين تدعم هذا التوجه. فهذا موقوف نهش مرض السرطان عموده الفقري، فلم يعد يقوى على الوقوف والتحرك، ويتولى زملاؤه في السجن حمله كلما أراد قضاء حاجته، لكن القاضي لم يجد بذلك دافعاً لإطلاق سراحه أو التسريع بمحاكمته. سجين آخر تبيّن للمحكمة أنه موقوف عن طريق الخطأ بسبب تشابه في الأسماء بينه وبين مطلوب آخر، لكن ذلك لم يكن دافعاً لإطلاق سراحه والاعتذار عن الخطأ الحاصل، فماطل القاضي، واستمهل في الطلب من الجهات المختصة بتأكيد حصول الخطأ وأن الموقوف ليس مطلوباً للقضاء. وكلما أتاه جواب من جهة يؤكد حصول الخطأ، استمهل القاضي للطلب من جهة أخرى ثانية، وقد مضى على التوقيف الخطأ أربع سنوات.
حسب وكلاء الموقوفين فإن المماطلة والتسويف والتشدد الذي ينتهجه القضاء العسكري في التعامل مع الموقوفين، أفرز مشكلة أخرى، هي إقناع من يتم الإفراج عنهم بمتابعة حياتهم من جديد، ونسيان سنوات الظلم والقهر التي مرت بهم، والتغاضي عن سلطة قضائية وأمنيّة وسياسية ناصبتهم العداء من طرف واحد.
فكثير من الموقوفين قضوا في السجن سنوات بسبب حضورهم درساً في مسجد أو ساروا في تظاهرة أو حملوا سلاحاً، لكنهم في السجن اختلطوا بموقوفين آخرين بعضهم مجرمون، وآخرون يحملون فكراً تكفيرياً وإرهابياً، فسمعوا منهم، واقتنع بعضهم..ساعدهم في ذلك حجم الظلم الذي تعرضوا له، ليخرجوا من السجن إرهابيّين جاهزين لتنفيذ عمليات انتحارية بعدما كانوا مواطنين صالحين لايريدون أكثر من العيش بسلام.