العدد 1372 / 31-7-2019
أواب إبراهيم

على قاعدة "اذكروا محاسن موتاكم"، تنافس المحللون والكتاب والإعلاميون على استذكار مآثر وأفضال الرئيس التونسي الراحل الباجي قائد السبسي الذي توفي قبل أيام. الإنجاز الأبرز الذي اتفق عليه الجميع هو أن السبسي نجح بالتعايش مع حركة النهضة التونسية ذات التوجه الإسلامي ، وحمى تونس من الانزلاق لاقتتال داخلي ، ومواجهة مصير مشابه لما واجهته مصر بعد الثورة. علماً أن الوقائع والأرقام تكشف أن الذي حمى تونس من الاقتتال الداخلي هي حركة النهضة. ولها الفضل بعد الله عزّ وجل بوصول تونس إلى بر الأمان وعدم حصول اقتتال داخلي، لأنها أدركت المخاطر والمتربصين، فتنازلت وتراجعت وتعالت ، ولم تستغل فرصة الوصول الى السلطة رغم أنها كانت متاحة.

ففي أول انتخابات للمجلس التأسيسي تشهدها تونس عقب ثورتها وخلع نظام ابن علي عام 2011 ، حلّت حركة النهضة في المركز الأول بعدما فازت بـ89 مقعداً من أصل 217 ، محققة نسبة زادت على 36%، بينما نال من حلّ في المركز الثاني 29 مقعداً بنسبة 8% فقط، وهو الحزب الذي أسسه المنصف المرزوقي. حينها والتزاماً بالديمقراطية التي يصدّع الغرب رؤوسنا بها، واستجابة لنتائج الانتخابات، كان من الطبيعي أن تتصدر حركة النهضة المشهد، وأن تتولى إدارة البلاد، وأن ترشح رئيسها أو أحد أفرادها لرئاسة الجمهورية ، خاصة أن فلول النظام السابق مازالت متغلغلة في الدولة وأجهزتها لاسيما الأمنيّة والعسكرية. والفرصة تاريخية وربما لن تتكرر بالوصول إلى السلطة بعد عقود من الظلم والاضطهاد والسجن والتضييق والإبعاد لقيادات الحركة من النظام السابق. لكن الحركة لم تفعل، وتراجعت خطوة إلى الوراء، فلم تقدم نفسها بديلاً لتولّي السلطة، وتبنّت ترشيح المنصف المرزوقي لرئاسة الجمهورية.

في انتخابات عام 2014، وبعدما كانت الدولة العميقة وفلول النظام السابق قد أعادوا ترتيب صفوفهم، شكلوا حزب نداء تونس الذي ترأسه الراحل الباجي قايد السبسي، وحلّ هذا الحزب في المركز الأول محققاً 86 مقعداً بنسبة 40% ، بينما حلت حركة النهضة في المركز الثاني بـ 69 مقعداً بنسبة 32%. كان واضحاً أن ما يجمع حزب نداء تونس هو العداء لحركة النهضة فقط، فقد ضمّ الحزب خليطاً هجيناً غير متجانس من ركام نظام ابن علي إضافة ليساريين وعلمانيين ونقابيين. لكن مواجهة النهضة كانت أولوية بالنسبة لهؤلاء، وخاضوا الانتخابات تحت شعار "من لا يصوّت لحزب نداء تونس فقد صوَّت لحركة النهضة". لم يفعل حزب نداء تونس ما فعلته حركة النهضة حين فازت في الانتخابات من زهد بالحكم، بل تقدم مدعوماً من الدولة العميقة ودول خارجية لتولي زمام الأمور، فترشح رئيس الحزب السبسي لرئاسة الجمهورية، فأيّدته حركة النهضة رغم أن خلفيته العلمانية كانت مكشوفة، والتزامه فكر الرئيس الأسبق الحبيب بورقيبة بمعاداة الإسلام معروفة. لم يكتف السبسي بتولي الرئاسة، بل اشترط كذلك تسمية رئيس الوزراء من حزبه، وكذلك الإمساك بجميع المفاصل الرئيسية في البلاد والوزارات السيادية، وترك لحركة النهضة بعض الحقائب الوزارية العادية. مرة جديدة تراجعت حركة النهضة إلى الوراء، ولم تعترض بل دعمت وأيّدت خطوات الرئيس.

أدركت حركة النهضة مبكراً أن الديمقراطية التي يتشدق بها البعض لاتشمل التيارات ذات التوجه الإسلامي، بل تقتصر على اليساريين أو العلمانيين أو أي طرف آخر لايحمل فكراً إسلامياً. أدركت كذلك أن مخالب الأنظمة العربية الفاسدة لن تسمح بوصولها للسلطة في تونس، ولن تدعها تقوم بتمثيل الشعب الذي منحه ثقتها، فتراجعت وتنازلت وتخلّت عن الكثير من مبادئها بشكل مبالغ فيه ، ويعتبره كثيرون مخالفاﹰ للشريعة، لكنها اعتبرت أن حفظ دماء أبناء تونس وحماية البلاد من أي اقتتال داخلي أولوية يجب الحفاظ عليها، وهو ما نجحت به حتى الآن رغم ترصد كثيرين بها.

الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي تفرّد بالسلطة رغم تفسّخ الحزب الذي أسسه وانشقاق الكثيرين منه وخلافه مع رئيس الوزراء الذي اختاره هو، كما استفزّ قواعد حركة النهضة بمواقف وتصريحات مخالفة للإسلام. في المقابل لتزمت الحركة بأولوياتها ونجحت بالتعايش والتعامل مع رئيس مهمته الأساسية عدم وصول الحركة الى السلطة. بعد كل ذلك يأتيك من يقول بأن السبسي هو الذي نجح بالتعايش مع النهضة (!!).

أوّاب إبراهيم