العدد 1451 /3-3-2021

احتلّ التجمع الذي أقيم أمام البطريركية المارونية في بكركي والخطاب الذي ألقاه من نافذتها الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي صدارة الأحداث خلال الأسبوع المنصرم. فرغم النكبات والأزمات والمصائب التي تحيط باللبنانيين، إلا أن مواقف البطريرك أخذت حيّزاً من اهتماماتهم، ومازالت أصداؤها تتردد في أكثر من مكان.

البطريرك الماروني إلى جانب دعوته لعقد مؤتمر دولي للبنان، لخّص مواقف سبق له إعلانها في مناسبات سابقة، وأبرزها الدعوة للحياد عن صراعات المنطقة، وبناء أفضل العلاقات مع مختلف الدول، ورفض وجود السلاح الذي يطلق عليه وصف (غير الشرعي).

البطريرك الراعي بمواقفه هذه أعاد إلى ذاكرة اللبنانيين مواقف البطريرك السابق الكاردينال مار نصرالله بطرس صفير، الذي كان رغم سمته الهادئ والوقور حاداً في مواقفه جريئاً في الإفصاح عنها مهما كانت تبعاتها، كما أعادت للذاكرة محطات كان فيها للبطريركية وسيدها دور في التمهيد لمحطات مفصلية، ربما آخرها في العقود الماضية نداء بكركي عام 2000 الذي سار عكس تيار الجو السياسي السائد، فطالب الجيش السوري بالانسحاب من لبنان، في الوقت الذي كانت فيه الوصاية السورية في عزّ قوّتها وتتحرك براحتها. بعدها بأشهر احتضن البطريرك الماروني صفير لقاء قرنة شهوان الذي جمع عدداً من القوى اللبنانية، رفعت الصوت مطالبة مرة جديدة بانسحاب الجيش السوري من لبنان. بعدها بسنوات اغتيل الرئيس رفيق الحريري، وشكل نداء بكركي ومواقف لقاء قرنة شهوان مطلباً أساسياً للتظاهرات الشعبية الغاضبة في ساحة الشهداء يوم 14 آذار، وانسحب الجيش السوري من لبنان.

تتصدر بكركي اليوم (وخلفها الكثير من اللبنانيين من جميع الطوائف) المواجهة مرة أخرى، لكن هذه المرة ليس في مقابل الوصاية السورية بل في مواجهة حزب الله وحلفائه. هل يكرر التاريخ نفسه، ويشكل خطاب البطريرك من بكركي أرضية لحصول تطورات تفضي لتحقيق ما يطالب به، ربما. لكن المؤكد هو أن البطريرك الماروني يقود منفرداً مواجهة جريئة بالنيابة عن شريحة وازنة من اللبنانيين، يتحدث باسمهم ويعبّر عن آرائهم، في مواجهة فريق يملك كل عوامل القوة السياسية والعسكرية والإعلامية. في موازاة هذه المواجهة، تغيب أطراف أخرى تشاطر البطريرك مواقفه لكنها لم تمتلك الجرأة لرفع الصوت كما رفع هو، أو على الأقل لتأييد ما يقوله.

شريحة واسعة من المسلمين السنّة في لبنان يجدون أنفسهم اليوم خارج المعادلة. هم يؤيّدون مواقف البطريرك ويعتبرون أنها تعكس مواقفهم ومطالبهم، لكنهم يجدون من يمثلهم أو يمثلونهم غائبون عن السمع، لا حسّ لهم ولا خبر، لا تأييداً ولا رفضاً، وكأنهم يغطّون في نوم عميق.

ليست المرة الأولى التي يشعر فيها المسلمون في لبنان أنهم خارج دائرة التأثير، فلطالما كانوا في الصف الثاني. المرة الوحيدة التي شعروا خلالها أنهم في صدارة المشهد كانت حين حصل اغتيال الرئيس رفيق الحريري، والفضل في ذلك يعود لشجاعتهم وإرادتهم، بل لبشاعة الجريمة وهولها، وتعاطف الكثير من اللبنانيين مع أهل الشهيد والفريق السياسي الذي يمثله الحريري الأب، فورث الابن هذا التعاطف وجيّره زعامة واسعة عابرة للطوائف في الانتخابات النيابية. لكن هذه الزعامة سرعان ما فقدت زخمها بفضل أداء الحريري الابن، حتى باتت كتلته النيابية تتآكل وتتقلص عند كل استحقاق انتخابي.

المسلمون السنّة غائبون أو مغيّبون. ممثلهم السياسي يقضي معظم وقته في طائرته الخاصة متنقلاً بين عواصم لا أحد يدري ما يفعل فيها. دار الفتوى وسيّدها ينهمكون في التحضير لإطلالتهم القريبة لتهنئة المسلمين بحلول نصف شعبان وإعلان ثبوت هلال رمضان. هذا الواقع جعل كثير من المسلمين يجدون في بكركي ما يعبّر عنهم أكثر بكثير مما يجدونه في عائشة بكار.

أوّاب إبراهيم