أواب إبراهيم

شهدت مختلف المناطق اللبنانية عدداً من التظاهرات الغاضبة والرافضة للضرائب الجديدة التي تعتزم السلطة فرضها على اللبنانيين لتمويل سلسلة الرتب والرواتب. أبرز هذه التظاهرات شهدتها ساحة رياض الصلح وسط بيروت المواجهة للسراي الحكومي، في حين أن الجهة التي تقرّ الضرائب هي مجلس النواب، ودون إقرار المجلس لا وجود لأي ضرائب جديدة. لكن أحداً لا يتظاهر أمام مجلس النواب، ولا أمام مقر رئيس مجلس النواب في عين التينة الذي يدير دفة البرلمان. الملفت أكثر، هو أن رئيس الحكومة سعد الحريري تصدّر المشهد، ويسعى لإقناع اللبنانيين بضرورة تحمّل الضرائب المفروضة لتمويل السلسلة، كأنه هو المسؤول الوحيد عن هذه الضرائب، في حين أن كل ما يتم نقاشه في مجلس النواب من رسوم إضافية تم التوافق عليها بين جميع القوى السياسية، ومعظم هذه الرسوم تم إقرارها عام 2014 في حكومة الرئيس نجيب ميقاتي، وتمّت إحالتها إلى لجان مجلس النواب حيث تمّ بحثها من جديد، قبل أن تحال إلى الجلسة العامة لمجلس النواب التي يشارك جميع النواب في نقاشها والتصويت عليها. فلماذا يجد الحريري نفسه المعني الوحيد، ولماذا يتحمل وزر الغضب الشعبي من الضرائب الجديدة، ولماذا يتلقى وحده قناني المياه من المتظاهرين في ساحة رياض الصلح، في حين أن شركاءه في إقرار هذه الضرائب يعتبرون أنفسهم غير معنيين بما يجري؟!.
هذا من جانب السلطة، لكن ماذا عن المتظاهرين الذين يطلقون على أنفسهم وصف «الشارع»، ويتحدثون باسم اللبنانيين؟ من هم هؤلاء، هل هم فعلاً الشارع اللبناني، وهل يتحركون بناء على معاناة ومطالب وأوجاع اللبنانيين دون أي أجندة أخرى؟ ومن الذي فوّضهم الحديث باسم اللبنانيين، وهل يوافق اللبنانيون على الشعارات التي يرفعها؟
سبق للبنانيين أن خبروا تجربة «المجتمع المدني» في عهد حكومة الرئيس تمام سلام على خلفية أزمة النفايات. يومها شهد وسط بيروت العديد من التظاهرات الحاشدة التي شاركت فيها أطياف مختلفة وواسعة من اللبنانيين، غضباً من أزمة أزكمت الأنوف، بعدما انتشرت أكوام النفايات في كل شارع وحيّ. قاد من أطلق على نفسه اسم «المجتمع المدني» اللبنانيين تحت شعار «طلعت ريحتكم»، وكانت محطة مناسبة لتشكيل تيار شعبي يمثل أوجاع اللبنانيين وآلامهم. لم تمرّ بضعة أسابيع حتى بدأت تظهر التصدعات بين مجتمعات «المجتمع المدني» وتنكشف هوياتهم الحقيقية، والتمايز فيما بينهم والأجندات الخاصة لكل فريق منهم. فخرجوا بمسمّيات جديدة ومختلفة، فمن رحم مجموعة «طلعت ريحتكم» خرجت علينا مجموعة أخرى أطلقت على نفسها اسم «بدنا نحاسب»، وثانية باسم «الشعب يريد».. ليس هذا فحسب، بل إن هذه المجموعات بدأت بانتقاد بعضها عبر وسائل الإعلام، وكل فريق يتهم الآخر بالفساد والتسييس وحب الظهور.. فأضاعوا أنفسهم وأضاعوا معهم اللبنانيين، وفرّطوا بفرصة ذهبية سنحت لتشكيل تيار شعبي غير منحاز يسعى لمواجهة الفساد وتحقيق العدالة بين اللبنانيين، بعيداً عن الطائفية والحزبية والفئوية.
اليوم يتكرر السيناريو نفسه، والوجوه نفسها التي رفعت لواء الغضب من أزمة النفايات ثم تناحرت فيما بينها، عادت للظهور لكن هذه المرة حول الضرائب وسلسلة الرتب والرواتب، بينما تقف الشرائح المسحوقة من اللبنانيين حائرة فيما يمكن أن تقوم به للاحتجاج على الضرائب الجديدة.
بعيداً عن هذا وذاك، برز في الآونة الأخيرة نموذج فريد في الحياة العامة، هو ذاك الذي يشارك السلطة في كل فسادها ومغانمها، ويوافق في مجلس النواب على السياسات الضريبية، لكن ما إن بدأ انعقاد جلسات مجلس النواب لإقرار الضرائب حتى انقلب على ما وافق عليه، ورفع لواء مواجهة الفساد، وصار يشعر مع سائق التكسي وعامل البقالة، وتحوّل بقدرة قادر من مشارك في إقرار الزيادات الضريبية إلى رافض لها ومحرّض للثورة عليها. أسوأ ما في الأمر أن البعض يؤكد أن صحوة الضمير غير المعهودة من هذا الفريق تعود إلى حلف مقدس معقود مع المصارف والمؤسسات التجارية الذين ساءهم البنود الضريبية المستحدثة عليهم، ولولا ذاك لاستمر الضمير في غفوته.