العدد 1425 / 19-8-2020
أواب إبراهيم

مخطئ من كان ينتظر من المحكمة الدولية الخاصة بلبنان أن تنجح بإدانة النظام السوري ورئيسه، أو حزب الله وقيادته. فمنذ البداية كان المطلوب من المحكمة تحقيقات قضائية مهنيّة، تكشف هوية المسؤولين عن جريمة اغتيال رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري عام 2005.

لكن لم يكن مخطئأ أبداً من كان ينتظر أن تقدم المحكمة الدولية معطيات وأدلة حسية لاتقبل النقض تثبت ضلوع المدانين بجريمة الاغتيال. لكن الذي حصل، أن حكم المحكمة جاء مخيباً للآمال والتوقعات التي عقدها عليه الكثير من اللبنانيين طيلة 15 عاماً.

يصلح الحكم الصادر عن المحكمة أن يكون قراراً ظنياً يشكل منطلقاً لإجراء المزيد من التحقيقات والبحث عن أدلة حقيقية. لكن أن يكون الحكم النهائي الصادر مليئاً بمفردات مثل "يُعتقد.."، "يُظن.."، "لم تتمكن المحكمة من.."، "تعذر على المحكمة.."، "لم تجد المحكمة رابطاً.."، فإن هذا كان أقرب أن يكون تحليلاً سياسياً أو توقعات فلكية، وليس حكماً قضائية شارك في التوصل إليه أهم قضاة ومحققي العالم، وتوفرت لهم أحدث وأهم تقنيات التحقيق. كل ما أوردته المحكمة في حكمها كان محاولة لإنكار الحقائق وليس إثباتها. في حين أن كل ما اعتبره رئيس المحكمة إنجازاً واكتشافاً لم يكن في الواقع إلا أدلة ظرفية يمكن لأي كان التشكيك بمصداقيتها.

استغرب كثيرون تبرئة المحكمة لثلاثة متهمين لعدم كفاية الأدلة، وحصر الإدانة بواحد منهم هو سليم عياش. لكن ما غفل عنه هؤلاء أن النظر للأدلة التي عرضتها المحكمة لإدانة عياش لم تكن مقنعة بل ظرفية وضعيفة، ويمكن التشكيك فيها. فأين الإدانة في وجود هاتف المتهم في بقعة حصول الجريمة، من قال أن المتهم هو الذي كان يحمل هاتفه بنفسه ولم يكن مع أحد غيره، وماذا لو أن جهة ما اخترقت شبكة الاتصالات وزرعت الهاتف في المكان، وماذا لو أن خللاً تقنياً أدى للاعتقاد بأن الهاتف موجود في بقعة الجريمة في حين أنه كان في مكان آخر. هي احتمالات ضئيلة الحدوث لكنها في النهاية واردة، وبإمكان أي أحد التشكيك بمصداقيتها، ومصداقية الحكم الصادر عن المحكمة المبني عليها.

كان اللبنانيون كما العالم ينتظرون أدلة حسيّة لاتقبل التشكيك تدين من ثبتت مسؤوليتهم. أدلة لايمكن إنكارها تتعلق بالوجود الفعلي للمتهمين: بصمات وراثية، صور فوتوغرافية، علاقة مباشرة تربط المتهمين بالمتفجرات، أو بالشاحنة التي استخدمت في ارتكاب الجريمة، أو باختطاف أحمد أبو عدس (الذي ظهر في شريط مصور يعلن مسؤوليته عن الاغتيال).. كان اللبنانيون ينتظرون أن تفاجئهم المحكمة بإنجازات غير متوقعة، لكن المفاجأة كانت ببناء المحكمة الدولية حكمها على نظرية "شبكة الهواتف" التي اكتشفها الرائد وسام عيد ابن بلدة دير عمار الشمالية، الذي دفع حياته ثمناً لاكتشافه هذا عام 2008.

لو صدر الحكم عن محكمة عادية ربما تقبّله اللبنانيون ولقالوا "أمرنا لله"، لكن أن يصدر عن محكمة دولية شكلت في مرحلة من المراحل عنواناً للانقسام بين اللبنانيين بسبب إصرار فريق منهم على التمسك بها وإصرار فريق مقابل على رفضها فهذا أمر مخيّب ومحبط. فالمحكمة الدولية كانت يوماً ما سبباً لاستقالة حكومة، وشرطاً دائماً لتشكيل الحكومات. المحكمة الدولية صرف عليها لبنان قرابة مليار دولار حتى الآن، ثم بعد ذلك يصدر عنها حكم هزيل يبني كل معطياته على جهد بذله ضباط لبنانيون قبل 12 عاماً.

ربما من الإيجابيات التي حملها معه حكم المحكمة الدولية، أنه أعطى درساً للبنانيين الذين يطالبون اليوم بمحكمة دولية في تفجير مرفأ بيروت. فعلى فرض حصول ذلك، وكان أداء المحكمة الدولية الخاصة بالمرفأ شبيهاً بالمحكمة الخاصة باغتيال الرئيس الحريري، فهذا يعني أن حكمها سيصدر عام 2035 (يدرى مين يعيش)، وأنها ستتهم العمال الذين قاموا بأعمال التلحيم في العنبر رقم 12 دون غيرهم لعدم كفاية الأدلة لاتهام سواهم، هذا عدا عن مليار دولار سيدفعه اللبنانيون من لحمهم الحي.