العدد 1424 / 12-8-2020
أوّاب إبراهيم

في الوقت الذي تواصل فرق الإنقاذ البحث عن أشلاء المفقودين تحت ركام مرفأ بيروت المدمر، صار التحقيق بقضية انفجاره عنواناً لقضية خلافية جديدة بين القوى السياسية. التي لاتريد الاكتفاء بتبرئة صفحتها ورفع المسؤولية عنها، بل تسعى للملمة الجريمة ولفلفتها على الطريقة اللبنانية. وكما حصل في جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري علت أصوات تطالب بإجراء تحقيق دولي في الحادث، لعدم وجود ثقة بنزاهة الأجهزة القضائية اللبنانية. في المقابل، علت أصوات أخرى شاءت الصدفة أنها ذات الأصوات التي علت قبل 15 سنة رافضة التحقيق الدولي بجريمة اغتيال الحريري.

يتصدر مشهد الرفض حزب الله الذي يشعر أن أي دخول دولي إلى لبنان، سواء كان تحت راية قوات حفظ سلام أو ضبط حدود أو لجنة تحقيق دولية، إنما يهدف لمحاصرته والتضييق عليه وسحب سلاحه. لكن من يتولى مواجهة الطرح هو رئيس الجمهورية بذريعة أن التحقيق الدولي يعد مساساً بالسيادة الوطنية. أما البديل الذي يقدمه حزب الله ومن معه هو اللجوء للقضاء اللبناني "النزيه والشفاف والمستقل".

حزب الله ومن معه يريدون أن يصدق اللبنانيون أن القضاء اللبناني نزيه ومستقل، علماً أن الحزب ومن معه يدركون جيداً أن القضاء في لبنان ليس نزيها ولا مستقلا ولا شفافا، وأن التسييس نخر عظمه، وبالتالي فإن أي تحقيق سيتولاه القضاء، سيكون حتماً عرضة للتسييس والاستغلال والسعي لتبرئة السلطة من أي مسؤولية. وهذا ليس اتهاماً، ولا مبنياً على فرضيات واتهامات فارغة، بل على أحداث واضحة ناصعة، لأن الفريق الذي يحاول إقناع اللبنانيين باستقلالية القضاء هو نفسه من عانى من تسييسه وخضوعه وإبرامه صفقات.

يمكن في هذا الإطار التذكير بالحكم الصادر عن المحكمة العسكرية بكف التعقبات عن جزار معتقل الخيام العميل الإسرائيلي عامر الفاخوري، الذي دخل إلى لبنان بطريقة مريبة وكان في استقباله في المطار ضابط كبير في الجيش، ثم بعد ذلك حظي بإطلاق سراح من المحكمة وخرج على رؤوس الأشهاد بطائرة من السفارة الأميركية. كل الأطراف المعنية غسلت يدها من إطلاق سراحه وطمرت رأسها بالرمال، ليتم بعدها إطلاق سراح قاسم تاج الدين المتهم في الولايات المتحدة بتقديم الدعم لحزب الله لتكون مصادفة متزامنة ملفتة (؟!)، ثم يريدون إقناع اللبنانيين أن القضاء مستقل.

قبل أسابيع أصدر قاض قراراً يقع ضمن صلاحياته، منع بموجبه وسائل الإعلام اللبنانية من تناقل تصريحات للسفيرة الأميركية التي اعتبر أنها تحرض اللبنانيين على بعضهم. القضاء المستقل والنزيه وبتوجيه من وزيرة العدل عاقب القاضي بإحالته إلى التفتيش المركزي، وقدم ممثل رئيس الجمهورية اعتذارا للسفيرة الأميركية على ما بدر من القاضي.

القضاء المستقل والنزيه هو الذي أخلى سبيل ضابط في قوى الأمن الداخلي عملت على تلفيق تهمة العمالة لمواطن لبناني من خلال اختراق حساباته الإلكترونية. وفي جلسة الحكم قدم مفوض الحكومة المعني بتوجيه الاتهام مطالعة برأ فيها المتهمة لتخرج من المحكمة محمولة على الأكتاف والزغاريد. ومفوض الحكومة نفسه صدرت بحقه ملفات فساد، لكن بما أنه محسوب على رئيس الجمهورية لم يتم المساس به وتُرك دون محاسبة حتى استقال من تلقاء نفسه.

القضاء النزيه والشفاف والمستقل هو الذي يرفض رئيس الجمهورية إقرار تشكيلاته القضائية لأنها لم تأتِ بالقضاة الموالين له في الأماكن التي يريدها. القضاء النزيه والشفاف هو الذي لاحق مواطناً مزق صورة رئيس الجمهورية بعد ساعات من قيامه بالفعل، في الوقت الذي لم نسمع صوتاً للقضاء لملاحقة مسلحين مدنيين أطلقوا النار على المتظاهرين العزّل وسط بيروت قبل أيام، رغم أن صورهم انتشرت في وسائل الإعلام، وكانوا يقفون على مسافة خطوات من ضباط وعناصر الجيش.

لا علاقة للقضاء اللبناني لا بالنزاهة ولا بالاستقلالية، ولاثقة للبنانيين بهذا القضاء الذي يعرف كيف يلوي المواد القانونية ويماطل في الإجراءات لخدمة مصالح السلطة السياسية، ولن تكون هناك ثقة بأي تحقيق يجريه القضاء اللبناني بحادث تفجير المرفأ. هذا لايعني أن التحقيق الدولي سيكون أكثر عدالة واستقلالية ونزاهة، والتجربة التي خبرها اللبنانيون مع المحكمة الدولية الخاصة باغتيال الرئيس رفيق الحريري لاتبشر بخير. فخيار اللبنانيين بين تحقيق لبناني مسيّس وغير مستقل، وتحقيق دولي لا أحد يعرف كيف ستكون نتائجه أو أهدافه الحقيقية.