أواب إبراهيم

صور مرعبة ومؤلمة وقاسية حفلت بها وسائل الإعلام وكذلك وسائل التواصل الاجتماعي في الأيام الماضية لما يتعرض له أهالي منطقة الغوطة الشرقية بسوريا من قصف وقتل وتدمير. أشلاء بشرية، أوصال مقطعة، أطفال قضوا اختناقاً، جثث تُنتشل من تحت الركام، نداءات استغاثة مؤثرة أطلقها أطفال في عمر الزهور. أوجعت هذه الصور كثيرين، وأبكت الكثيرين، وتسبّبت بألم حقيقي لكثيرين، وأغضبت كثيرين، فغرقت وسائل التواصل بعبارات الأسى واللوعة والحزن والتضامن.
غداً أو بعد غد أو بعد شهر، ستنتهي معاناة أبناء الغوطة، وعلى الأرجح سيدخلها النظام وحلفاؤه كما حصل سابقاً في مدينة حلب، وستنتقل الصور المرعبة التي شهدتها الغوطة في ذاكرتنا إلى ملفات أرشيفيّة، كما انتقلت سابقاً الصور المرعبة والمؤلمة التي شهدتها حمص وحلب وداريا وجسر الشغور والقصير وغيرها الكثير. وسيتراجع الحديث عما جرى في الغوطة رويداً رويداً حتى يختفي خلال أيام قليلة، بانتظار مأساة جديدة في مكان جديد، سواء في سوريا أو فلسطين أو ميانمار أو أي بقعة على هذه الأرض، فتعود الصور المرعبة مجدداً لتملأ وسائل الإعلام ووسائل التواصل، وتعود معها عبارات الألم واللوعة والأسى والغضب. أيام قليلة تمرّ فتلحق بما سبقها من صور مؤلمة وعبارات متعاطفة إلى ملفات أرشيفية أخرى، وهكذا..
لست متقدماً في السن كثيراً، لكنني أنتمي إلى جيل كانت ردات الفعل والتعبير عن التعاطف والتنفيس عن الغضب يتم بتحركات في الشارع كالتظاهرات والاعتصامات، وكتابة شعارات على الجدران، ورفع يافطات على أعمدة الكهرباء. هذه الأساليب ربما يصنّفها البعض اليوم في خانة المتخلّفة، لكنها كانت تؤدي الغرض المطلوب منها، وكانت تساهم في إشاعة أجواء حقيقية –لا افتراضيّة- من التعاطف والتضامن والغضب. اليوم صارت هذه الأساليب «موضة قديمة» ولم تعد مقبولة لدى كثيرين، وهو ما أثبتته التحركات الخجولة التي شهدها لبنان تضامناً مع ما يحصل في الغوطة. فالتعبير عن التعاطف والغضب بات اليوم أكثر أناقة ونظافة وحداثة، وعِوض الاحتشاد في باحة مسجد في اعتصام أو إشغال طريق بتظاهرة أو رفع لافتة، صارت شاشات هواتفنا الذكية هي مسرح تحركاتنا المتضامنة والغاضبة. فالصراخ في الشارع والاعتصام والتظاهر استُبدل بكتابة تعليق شاعري رقيق، وتعليق لافتة أو يافطة استُبدل بنشر صورة مؤلمة أو مقطع مصوّر. وسائل التواصل الاجتماعي باتت لدى كثيرين النافذة الحصرية التي يمكن من خلالها التعبير عن الغضب والتعاطف والتضامن، وهو انعكاس طبيعي للتطور الحاصل في وسائل الإعلام ووسائل التعبير، لكن المشكلة تكمن في أن هذا التعبير بات يقتصر على هذا العالم الافتراضي، ولم يعد يتعدى صورة أو تعليقاً أو مشاركة أو إعجاباً، في الوقت الذي بات بالإمكان استغلال انتشار الإعلام الجديد ووصوله إلى شرائح واسعة من الناس لابتكار وسائل تضامن فاعلة ومؤثرة مع معاناة أبناء الغوطة وكل معاناة أخرى. التفكير بهذه الوسائل متاح لجميع مستخدمي وسائل التواصل، لكنه مطلوب وواجب على العلماء وقادة الرأي والناشطين على هذه الوسائل، الذين يحظون بجمهور كبير من المتابعين والمؤيدين لآرائهم وأفكارهم وما ينشرونه على صفحاتهم.
في الماضي كان أحد الأدوار المطلوبة والواجبة من العلماء هو إطلاع مريديهم ومن يستمعون إليهم على أحوال المسلمين في بقاع الأرض.. اليوم وبعد انتشار وسائل التواصل، لم يعد الناس بحاجة لمن يُطلعهم على شيء، فهم -على الأرجح- مطلعون أكثر من الشيخ أو العالم على ما يجري حولهم. الناس بحاجة لمن يُرْشِدهم ويُرَشّدهم إلى ما يجب أن يفعلوه إزاء ما يشاهدونه.
على من يعنيهم الأمر من المشايخ والعلماء والمؤثرين فيمن حولهم أن يدركوا أن الواجب الملقى على عاتقهم لم يعد كما كان في الماضي من مخاطبة للعواطف، وأن دورهم اليوم يتجاوز الخطب الرنّانة في انتقاد الزعماء العرب وتخاذل المسلمين وحشد الكراهية لإسرائيل والنظام السوري وروسيا وحلفائهم، المطلوب منهم اليوم هو ترشيد الغضب والانفعال والتضامن، وتأطيره فيما ينفع، لا أن يكونوا مساهمين في إهداره على صفحات العالم الافتراضي التي تتحول غداً إلى ذكريات.