العدد 1681 /17-9-2025

 

 

إنديرا الشوفي

مع بداية كل عام دراسي جديد في لبنان، تعود أزمة الأقساط المدرسية إلى الواجهة كجرح مفتوح لم يلتئم منذ سنوات. الأهالي يقفون أمام الإدارات مثقلين بالأسئلة: كيف يؤمّنون الأقساط بالدولار النقدي؟ كيف يشترون الكتب والقرطاسية التي تضاعفت أسعارها؟ وكيف يوفّرون لأولادهم تعليماً لائقاً في ظل انهيار اقتصادي ومالي يلتهم كل مقومات العيش؟ لم يعد التعليم في لبنان حقاً بديهياً، بل بات معركة يومية. مدارس خاصة تتصرّف كأنها شركات ربحية، دولة غائبة عن الرقابة، وطبقة وسطى تنهار بين نار التضخم وانهيار العملة. والنتيجة: آلاف التلامذة مهدّدون بخسارة مستقبلهم، وبلد بأكمله مهدّد بخسارة رأسماله البشري.

قبل عام 2019، كان القسط في معظم المدارس الخاصة يتراوح بين 1200 و1500 دولار، وهو رقم قابل للتحمّل نسبياً من الطبقة الوسطى. اليوم، قفزت الأقساط لتتراوح بين 2500 و4000 دولار وأكثر، مع الإصرار على الدفع "فريش" دولار. المفارقة أن رواتب المعلمين بقيت بمعظمها بالليرة اللبنانية أو بمبالغ زهيدة بالدولار، ما يكشف خللاً اقتصادياً فادحاً: كلفة التعليم لا تعكس مستوى الخدمة، بل واقعاً تجارياً تحكمه اعتبارات الربح. هذا الوضع يعبّر عن حالة "تسعير بالدولار" غير خاضعة لأي ضوابط رسمية، حيث تتحكم المدارس بالأسعار وفقاً لقدرتها على استقطاب الأهالي، وليس وفقاً لسياسة وطنية شاملة. والنتيجة أن التعليم أصبح سلعة في سوق مفتوحة، بدل أن يكون حقاً عاماً متاحاً للجميع.

الأزمة لا تتوقف عند الأقساط، بل الكتب والقرطاسية تحوّلت إلى استنزاف إضافي، فالكثير من المدارس تفرض شراء المستلزمات من موردين محددين بأسعار تفوق السوق بأضعاف. وبحسب بعض الأمهات، اللواتي يحسبن كلفة الحقائب وحدها تصل إلى 100 دولار. أما الكتب الأجنبية فتُباع كأنها "سلع فاخرة"، رغم أن التعليم يجب أن يكون متاحاً للجميع. اقتصادياً، هذا الإنفاق يُشكّل ما يُعرف بـ"التضخم الموسمي". العائلات تُضطر لاقتطاع قسم من ميزانيتها الهشّة لصالح التعليم، ما يؤدي إلى تقليص الاستهلاك في قطاعات أخرى كالغذاء والصحة. وبذلك، لا يعود التعليم مجرد همّ أسري، بل عاملاً يضغط على الدورة الاقتصادية بأكملها.

في المقابل، يفترض على لجان الأهل أن تكون أداة تفاوضية، لكن واقع الحال أبقاها عاجزة عن لعب هذا الدور. كثير من المدارس تعلن أقساطها متأخرة لتجنّب المواجهة، والأهالي يجدون أنفسهم أمام أمر واقع لا يمكن تغييره. وفي ظل هذه الظروف، عائلة تضم أربعة أولاد تحتاج إلى نحو 10 آلاف دولار سنوياً للتعليم فقط، فيما متوسط الراتب الشهري في لبنان لا يتجاوز 300 دولار، والحد الأدنى للأجور 100 دولار. هذا الفارق بين الكلفة والدخل يوضح أن المسألة لم تعد تربوية وتعليمية فقط، بل هي انعكاس مباشر لانهيار اقتصادي شامل.

 

إزاء هذا الضغط، يضطر عدد متزايد من الأهالي إلى نقل أبنائهم إلى المدارس الرسمية التابعة للدولة. والبعض، اتخذ هذا القرار بعدما وصف سلوك المدارس الخاصة بـ"الجشع". وقد تكون المدرسة الرسمية أقل تنظيماً، لكنها على الأقل لا تبتز أولياء الأمور مالياً. ورغم ضعف البنية التحتية، حققت بعض المدارس الرسمية إنجازات لافتة في السنوات الأخيرة، مثل إدخال مواد تتعلق بالذكاء الاصطناعي، وتحقيق نتائج جيدة في الامتحانات الرسمية. لكن هذا التحسّن يواجه تحديات جدية، أبرزها الاكتظاظ داخل الفصول، ونقص الموارد. ومع تزايد الانتقال من الخاص إلى الرسمي تصبح الدولة أمام مسؤولية مضاعفة لإعادة الاعتبار لهذا القطاع.

الأخطر في المشهد التعليمي هو غياب الدولة اللبنانية، فلا وزارة التربية تضع سياسة واضحة للرقابة على الأقساط، ولا وزارة الاقتصاد تتدخل لضبط أسعار الكتب والقرطاسية. هكذا، تُرك الأهالي وحدهم في مواجهة إدارات المدارس، فيما يُختزل التعليم بعلاقة تجارية غير متكافئة. اقتصادياً، هذا الغياب الرسمي يفتح الباب أمام آثار مدمّرة من أبرزها:

- تآكل الطبقة الوسطى التي تُجبر على تخصيص معظم دخلها للتعليم بدل تحسين معيشتها أو الاستثمار.

- انكماش الاستهلاك، إذ تقلّص العائلات إنفاقها في قطاعات أخرى لصالح التعليم، ما يضعف النمو الاقتصادي.

- هجرة العقول، حيث إن العائلات تبحث عن فرص تعليم أفضل في الخارج، ما يؤدي إلى نزيف جديد في الكفاءات.

ومنذ سنوات، لم ينجح مجلس النواب اللبناني في إقرار تشريعات تنظّم العلاقة بين المدارس الخاصة والأهالي. مشاريع القوانين إما عالقة في اللجان، أو تواجه ضغوطاً من أصحاب النفوذ المرتبطين بالمؤسسات التعليمية. وبهذا، تبقى الأزمة رهينة التجاذبات السياسية، فيما يُترك المجتمع وحده في مواجهة كارثة اجتماعية-اقتصادية طويلة الأمد. وإذا استمر الوضع كما هو، فإن لبنان مهدّد بفقدان أهم ما يملكه: رأس ماله البشري. فالتعليم لطالما كان "جواز سفر" اللبنانيين إلى العالم، ومصدراً لتحويلات مالية ضخمة من المغتربين. لكن انهيار النظام التعليمي سيضعف إنتاجية القوى العاملة، ويقلل من قدرة لبنان على المنافسة في الخارج، ويعمّق الفوارق الطبقية داخلياً.

ورغم صعوبة الوضع، يمكن التفكير بعدد من الإجراءات، أبرزها، التشريعات الرقابية التي تفرض سقوفاً للأقساط وتُلزم المدارس بالشفافية المالية. دعم رسمي من خلال منح تعليمية للأهالي أو تحويلات مخصّصة لتغطية جزء من الأقساط. شراكات دولية، مع منظمات دولية لتمويل التعليم الرسمي وتحسين جودته. وتعزيز دور لجان الأهل عبر منحها صلاحيات قانونية أوسع لمساءلة إدارات المدارس.

ختاماً، التعليم في لبنان لم يعد حقاً مضموناً، بل امتيازاً يتحدد بقدرة الأهل على الدفع. ومع غياب الدولة، وانسحابها من دورها الرقابي، يُترك مستقبل الأجيال رهينة السوق. الأخطر أن هذا الواقع لا يهدد الأفراد فقط، بل الاقتصاد اللبناني برمّته. فبلد فقد عملته وصناعته وزراعته، لا يملك إلا إنسانه المتعلم كرأسمال. وإذا فقد التعليم، يفقد معه آخر عناصر قوته. ما يحتاجه لبنان اليوم ليس فقط صرخة أهالٍ، بل خطة وطنية تعتبر التعليم أولوية اقتصادية واجتماعية قصوى، لا ترفاً يقتصر على القادرين والأثرياء وأصحاب الدخول المرتفعة.