وائل نجم -كاتب وباحث

 عاد خلال الايام الماضية مشهد الاعتصامات والاحتجاجات إلى العديد من المدن والمحافظات اللبنانية، وإلى مواقف بعض القوى السياسية أيضاً، وذلك بعدما أوقفت الأجهزة الأمنية مفتي راشيا والبقاع الغربي السابق، الشيخ بسّام الطرّاس، على خلفية الاشتباه الأمني، كما ورد في بعض المعلومات التي نسبت إلى الأجهزة الأمنية والقضائية. وقد كانت هذه الخطوة كفيلة بإشعال نار الغضب في نفوس الكثير من المواطنين الذين ساءهم أن يصار إلى توقيف مفتٍ سابق، وشيخ واستاذ جامعي، على خلفية الاشتباه الأمني، ومداهمة منزله وتوقيف نجله ايضاً من دون وجود استنابة قضائية، كما قالت بعض المعلومات، وكل ذلك على خلفية الاشتباه الأمني في التواصل مع جهات مطلوبة، أو مصنّفة إرهابية عند الحكومة اللبنانية. وقد تحوّل الغضب إلى حركة اعتصامات واحتجاجات في معظم المناطق اللبنانية، بدءاً من دار الفتوى في بيروت، حيث أكد سماحة المفتي عبد اللطيف دريان«أن المسلمين في لبنان مع القانون وتحته، ولكنهم يرفضون الاساءة إلى الكرامات»، كذلك نُظِّمت تحركات احتجاجية في البقاع، وصيدا، وطرابلس، وأمام المحكمة العسكرية، رفضاً لتوقيف المفتي الطراس على الاشتباه الأمني من ناحية، واعتراضاً على سياسة الكيل بمكيالين من ناحية ثانية. فما هي حدود الواجب الامني الذي يحفظ البلد من الفوضى والانزلاق نحو المجهول، وسياسة الكيل بمكيالين التي يمكن أن تجرّ البلد إلى الفوضى والمجهول؟!
صحيح أن عمل الاجهزة الأمنية اليوم في أي مكان من الدنيا يعمل من أجل تفادي وقوع أعمال تصنّف في خانة الجرائم أو الارهاب أو ما سوى ذلك، وقد أتاح المشرّع لهذه الأجهزة في أي بلد من الدنيا هامشاً معيناً يخوّلها هذا الحق الذي من خلاله تكون في عمليات استباق لأي تخطيط أو عمل جرمي، بالطبع فإن ذلك يسجّل لأي جهاز يقوم بأي عمل من هذا القبيل، ولكن مع التشديد على ضرورة عدم انتهاك القوانين التي خوّلته هذا الحق، ولا الحرمات التي صانتها القوانين الدولية لحقوق الإنسان، وإلا فإن الاجهزة عندها تكون قد تخطت واجبها وسقفها وعملها، وتغوّلت على المجتمع، حتى تحوّل نظام الحكم فيه إلى نظام مستبد لا يشعر فيه ومعه الناس بالحرية والديمقراطية والكرامة، وهذا بالطبع مدعاة للثورات كما حصل في الكثير من الاقطار والمجتمعات. وهذا بالطبع يشكل خطراً على أمن الدول والمجتمعات وسلامتها، فتكون هذه الاجهزة قد خرجت عن الغاية التي وجدت من أجلها، بل على العكس أدت إلى النتيجة المعاكسة من غاية وجودها.
وأما في المسألة الثانية والمتصلة بسياسة «الكيل بمكيالين»، فإن ذلك يشكّل أيضاً مدعاة للشعور بالغبن والظلم من المواطنين، ما يؤدي إلى فقدان الثقة بالأجهزة الأمنية، وتالياً بالقضاء، ومن ثم بالدولة بشكل عام، وهذا بالطبع يقود ويحمل إلى الثورة التي يمكن أن تطيح كلّ شيء وتولّد، من خلال ردّ الفعل، سياسة جديدة تكون أيضاً قائمة على نهج الكيل بمكيالين، وبالتالي يكون المجتمع أمام ثورة جديدة، وهكذا دواليك يبقى المجتمع في حركة اضطراب لا تهدأ ولا تستقر، وبالتالي في حالة استنزاف على كثير من المستويات، فضلاً عن التشققات التي تصيب بنية المجتمع، ولا يكون رتقها من السهل والممكن، والتي تستمر معه للعقود إن لم نقل لقرون.
ما يجري اليوم في لبنان يحتاج إلى رسم حدود دقيقة بين «الواجب الأمني» لحفظ أمن البلد واستقراره، وبين «سياسة الكيل بمكيالين» التي صارت شعوراً متعاظماً عند معظم اللبنانيين، وإلا فكيف نفسّر توقيف مواطنين على الاشتباه الأمني، واستناداً إلى ما يُعرف بوثائق الاتصال، ويمكن أن يجري تصنيفهم على قوائم الارهاب، وأن يبقوا في السجون لفترات طويلة من دون محاكمة، فيما يترك آخرون يعبثون بالأمن من خلال امتلاك السلاح تارة، واستخدامه في الداخل تارة أخرى، وتجاوز الحدود به مرة ثالثة؟! أليس في ذلك «صيف وشتاء تحت سقف واحد؟!» وكيف يمكن مواطناً أن يرتكب جرماً كبيراً، أو محاولة لإشعال فتيل فتنة طويلة عريضة في البلد، ثم يحبس لبضع سنوات، فيما يبقى آخر بالشبهة لسنوات أطول في السجن؟ وكيف نفسّر إصدار أحكام مخففة على مرتكبي تفجيرات، فيما يحكم لسنوات طوال آخرون بأعمال بسيطة؟!
إن الشعور المتنامي بوجود سياسة «كيل بمكيالين»، وهي حقيقة موجودة، يولّد يوماً بعد يوم عند شرائح وقطاعات واسعة من اللبنانيين شعوراً بالظلم والاضطهاد والاستهداف، وقد بات ذلك حديثاً في الكثير من المجالس، وبالتالي فإنه يؤجج الصدور مع كل حدث للتحرك من أجل التخلّص من هذا الظلم والاضطهاد، وهذا ما من شأنه أن ينزلق بالبلد في أي لحظة غير محسوبة إلى مجهول الفوضى التي لا يعلم أحد كيف يمكن أن تكون نهايتها. لذلك فإن المطلوب من القوى العاقلة والرشيدة في هذا البلد، وبشكل سريع لا يحتمل التأخير، وضع ورسم حدود واضحة لدور وواجب العمل الأمني الذي يحفظ أمن البلد واستقراره، وبين عدم شعور المواطن باستنسابية أو غبن أو اضطهاد، ولا يكون ذلك إلا من خلال تفعيل القانون ليكون السقف الذي يتحرك تحته كل المواطنين ويحمي كل المواطنين، وإلا فإن عواقب الأمور في هذا البلد لن تكون محمودة في المستقبل البعيد أو القريب.