وائل نجم

 منذ تأسيس لبنان في مطلع القرن العشرين كان المسلمون أساساً في حدث التأسيس والتكوين والتمكين، فساهموا بشكل كبير في عملية الاستقلال عن الاحتلال الفرنسي، كما في عملية البناء والاستقرار على كافة المستويات السياسية والأمنية والاقتصادية والاجتماعية، وشكلوا على الدوام ضمانة بقاء واستقرار واستمرار هذا الوطن. كانت هذه قناعتهم، وإن ظلّوا فترة من الزمن يحنّون إلى العمق العربي، وهذا شيء طبيعي وبديهي وهم الذين كانوا وما زالوا يعتبرون هذا البلد جزءاً لا يتجزأ من محيطه العربي، وقد أكد ذلك الدستور اللبناني في مقدمته، وبالتالي فإنهم قادوا مع بقية الشركاء في الوطن عملية النهوض والبناء على قدم وساق. حتى يمكن القول إنه بدون المسلمين ما كان لهذا البلد أن يقوم بهذا الشكل الذي هو عليه اليوم.
وبعد الاستقلال عن الاحتلال الفرنسي، وبناء مؤسسات الدولة، ظلّ المسلمون قوّة إيجابية فاعلة في عمل المؤسسات تدفع بها على الدوام من أجل تحقيق الصالح العام لكل المواطنين، فظلّوا ضمانة البلد، كما ضمانة كل المكوّنات، لأنه لم يكن لديهم أي هاجس من أي من الأطراف المشاركة في البناء والنهوض.
ومع تقدّم الزمن، ومع التطورات الكثيرة التي حصلت لا سيما خلال العقود الأخيرة، ومع المخططات التي تهدف إلى إقصاء المكوّنات الاساسية التي تشكّل ضمانات المجتمع، والتوجه نحو إنتاج صيغ هجينة تجمع مكوّنات أقلوية تشعر بالخوف والقلق الدائمين، وتظل مسكونة بالهواجس، لتقف بوجه المكوّنات الأساسية تحت عنوان استعادة الدور والمكانة ورفع الغبن، ومع الدعم الاقليمي والدولي الذي يتوفر لكثير من هذه الجهات وتنامي نفوذها وشعورها بفائض القوة، بدأ الاحباط يتسلل إلى نفوس المسلمين في هذا البلد شيئاً فشيئاً، وبدأ يتنامى في نفوسهم شعور بالاستهدف ما جعلهم ينكفئون عن كثير من المواقع التي كانوا يشكلون فيها ضمانة للوطن والجميع، وكل هذا ولّد شعوراً بالضعف دفع أحياناً إلى التنازلات التي تكاد تكون كـ «سبحة» انفرط عقدها، وأحياناً أخرى إلى الانعزال عن المجتمع مع ما يعنيه ذلك من تنامي شعور حب الانتقام وهو ما يلاحظ من خلال تنامي حالات لم تكن معهودة في بيئة المسلمين القائمة دوماً على الانفتاح والاعتدال والوسطية والحوار وطمأنة الآخر.
يشعر المسلمون اليوم في البلد بأنهم مستهدفون على مستوى الطاقة الشبابية التي يختزنونها، خاصة وهم يرون أن شبابهم موقوفون ومعتقلون في السجون دون محاكمات على أتفه الأسباب في وقت يقفز الآخرون فوق القانون السيادة ويتجاوزن كل حدّ من حدود السلطة وهيبة الدولة.
يشعر المسلمون اليوم بأن مواقعهم في السلطة باتت مستهدفة بالاغتصاب القهري من خلال السيطرة على مواقعهم أو من خلال إفراغ هذه المواقع من مضمونها ومحتواها، وتجاوز كل صلاحية لها، ولعل في بعض المشاهد الأخيرة التي تتجاوز دور وصلاحية الحكومة ورئيسها ما يؤكد هذا الانطباع عند أكثر المسلمين، سواء في ما يتعلق بالقرار السيادي، أو في ما يتعلق بالحقوق والواجبات، أو في ما يتعلق بممارسة الصلاحيات، وكل ذلك بالطبع يولّد الشعور بالاستهدف والاحباط واليأس الدافع إلى معادلة من اثنتين كنت قد ذكرتهما.
المسلمون اليوم يشعرون بأن القانون يطبق عليهم دون غيرهم من المواطنين، وأن الفاسدين إذا انتموا إلى مكوّن آخر يحظون بغطاء سياسي وقانوني، أما إذا برز أي فاسد في أي مجال من مجالات الإدارة – وهذا وارد بالطبع – فإن القيامة تقوم ولا تقعد عليه، وكأنه المسؤول عن «خراب البصرة» كما يقولون.
كل ذلك جعل المسلمين يغيبون عن الحدث الوطني، وأقصد هنا غياب التأثير، وليس الغياب عن الحضور. وبات غيرهم هو الذي يقرر في القضايا الوطنية العامة أو المهمة حتى لو كانت متصلة أساساً بكل اللبنانيين. بات غيرهم يحتكر قرار الحرب والسلم، وحتى قرار إدارة الدولة وتعطيل مؤسساتها وأجهزتها أو تشغيلها. بات معزولين تقريباً عن التأثير بالحدث الوطني، وهذا زاد الاحباط واليأس، وهو قد يدفع إلى خيارات لم تكن يوماً جزءاً من قاموسهم أن مفرداتهم.
أما المسؤول عن هذا الذي وصل إليه الوضع فهم المرجعيات التي نصّبت نفسها، أو نُصّبت مرجعية عليهم، وباتت في لحظة ما أسيرة أمور ندركها أو لا ندرها، ولكن المهم أننا ندفع ضريبتها، ومن غير السهولة استعادة أثمان هذه الضريبة فيما لو استمرت عملية «الانحدار» نعم «الانحدار» بهذا المستوى.
كما وأن هذه المسؤولية تتحملها مرجعيات خارجية أرادت أن تحتكر صداقة البعض في الداخل، ولكنها لم تحسن، بإرادة أو من غير إرادة، استثمار هذه الصداقة لتحصين الواقع اللبناني، وواقع المكوّنات الضامنة لاستمراره ضمن صيغة التوازن المطلوبة.
اليوم الساحة المسلمة في لبنان بحاجة أكثر من أي وقت مضى إلى مراجعة لموقفها وموقعها قبل فوات الأوان، كما المطلوب أن تعود للاجتماع على مشروع وطني ينحّي الخلافات جانباً، وينقذ ما بقي من الوطن، ومن المكوّن الذي ظل على مدى عقود ضمانته الحقيقية المستمرة.}