وائل نجم

كما فاجأ رئيس الحكومة اللبنانية، سعد الحريري، الجميع باستقالته التي أعلنها من الرياض في الرابع من تشرين الثاني، فاجأهم أيضاً بالتريث في المضي بالاستقالة يوم الثاني والعشرين من الشهر ذاته بعد لقائه رئيس الجمهورية، ميشال عون، في قصر بعبدا بعد احتفال لبنان بذكرى استقلاله، وقد نقل الحريري يومها أنه بناءً على طلب رئيس الجمهورية، فقد أخذ قراراً بالتريث في تقديم استقالته وفق الأطر الدستورية الناظمة، مفسحاً في المجال أمام الرئيس عون لإدارة حوار أو مشاورات ثنائية، بناءً على وعد الأخير، حتى إزالة ما اعتبر أسباب استقالة الحريري.
وبالفعل، فقد دعا رئيس الجمهورية، ميشال عون، يوم الاثنين في السابع والعشرين من تشرين الثاني قادة ورؤساء القوى السياسية المشارِكة في الحكومة إلى مشاورات ثنائية في قصر بعبدا للاستماع إلى وجهة نظرهم وموقفهم من كيفية تطبيق سياسة «النأي بالنفس»، التي كانت السبب المعلن لاستقالة الحريري، وكذلك من مواضيع أخرى كالسلاح وتطبيق واستكمال تطبيق «اتفاق الطائف» وغيرها من العناوين. وقد سمع الرئيس عون من المدعوين، وأصدر في ختام يوم المشاورات بياناً مقتضباً أكد فيه الاتفاق بين الأطراف على النقاط الخلافية على أن تستكمَل المشاورات مع آخرين ومن ثم البناء على الشيء مقتضاه.
واضح أن التسوية التي أتت بـ«ميشال عون» رئيساً للجمهورية، و«سعد الحريري» رئيساً للحكومة أُصيبت بانتكاسة ونضوب. هي تسوية قامت على أساس نأي لبنان بنفسه عن مشاكل المنطقة، فضلاً عن احترام والتزام آليات ومؤسسات الدستور في ممارسة السلطة والشأن العام في لبنان. وكلٌّ من هذين الأمرين لم يُلتَزَم أو يُوفَ بالتعهد حياله، وهذا أمر يعرفه الجميع ويعترف به في لبنان، وهو في الحقيقة يشكّل سبباً كافياً لاستقالة الحريري بغضّ النظر عمّا إذا كان الرجل قد أُجبر على الاستقالة في السعودية أو لا.
اليوم الرئيس سعد الحريري وضع شروطاً واضحة للتراجع عن الاستقالة التي تريّث في تقديمها. أبرز هذه الشروط موضوع نأي لبنان بنفسه عن مشاكل المنطقة، وعدم التدخل في شؤون الدول العربية، ولا سيما الخليجية، وملف السلاح وسيادة الدولة على أراضيها وحدودها وقرارها الوطني. وهو ما أكده الحريري بوضوح وصراحة في مقابلته التلفزيونية مع قناة سي نيوز الفرنسية حيث أكد أنه لن يقبل في حكومته حزباً سياسياً يتدخل في شؤون الدول العربية.
هو إذاً تريّثٌ في تقديم الاستقالة مشروطٌ بتعهد وضمانة من «حزب الله» تحديداً في عدم التدخل في شؤون الدول العربية، وتالياً الانسحاب من العراق واليمن وسورية، وربماً لاحقاً وضْع تصوّرٍ واضح لمسألة السلاح الذي بحوزة الحزب.  فإذا تحققت للحريري تلك الشروط، فهو مستعد للتراجع عن الاستقالة، وإذا لم تتحقّق فإنه قال بصراحة إنه سيستقيل.
في مقابل تلك الشروط، فإن «حزب الله» تحديداً، المعني الأساسي بمسألة الاستقالة، بات أمام خيارات ليست سهلة، ليس بالنظر إلى أن الحريري يمكن أن يستقيل أو لا يستقيل ومدى ما يمكن أن يؤثّره ذلك في الحزب، بل لأنه يدرك أن الاستقالة هي رأس جبل الجليد الذي يخفي مشروعاً كبيراً يشترك فيه أطراف دوليون وإقليميون هدفه وضْع حدٍّ لتمدّد الحزب خارج لبنان، وتحجيم الدور الإيراني في المنطقة، وربما لاحقاً ضرب هذا الدور وضرب إيران معه. ولذلك فهو (الحزب) معني بالالتفاف قدر الإمكان على هذا المشروع، وتشكيل جبهة عريضة في مواجهته ترتكز أساساً على تحصين وتمتين الوحدة الداخلية اللبنانية، ولا تعطي فرصة لأي طرف باستهدافه أو الاستفراد به، خاصة في مسألة العقوبات الاقتصادية والمالية وحتى أي حرب عسكرية.
أمام  ذلك، يبدو أن التنازلات المطلوبة ليست بسيطة وسهلة، ولا تقتصر على مطلب واحد معروف ومحدد بشكل دقيق، بل هي عبارة عن كرة يمكن أن تتدحرج وتكبر بحيث إنه كلما قدّم الحزب تنازلاً يجد نفسه أمام مطلب جديد لتنازل جديد، وهذا بالطبع يقلق الحزب ويجعله أيضاً يتريث في التجاوب مع شروط الحريري مع قناعته بضرورة تقديم تنازل معيّن لاحتواء الازمة وتحويلها إلى فرصة جديدة. ويبدو أن رئيس الجمهورية، ميشال عون، أخذ على عاتقه محاولة التوفيق بين الشروط الحريرية المرفوعة والتنازلات الصعبة التي قد يكون بعضها متعذّراً، ولكنها قد تبدو لكلا الطرفين كالترياق الذي لا بدّ منه.}