العدد 1388 / 27-11-2019

د. وائل نجم

شهر ونصف تقريباً مرّ على انطلاق الانتفاضة الشعبية التي ما زالت مستمرة ومتواصلة. في الأيام الأولى للانتفاضة رفع المنتفضون والمتظاهرون مطلب إسقاط النظام ورحيل الطبقة السياسية الحاكمة فوراً، ثم بعد ذلك راح المطلب يتحوّل أكثر واقعية إلى مطلب استقالة حكومة العهد الأولى وتشكيل حكومة تكنوقراط، لا تضمّ أيّاً من السياسيين المتهمين بالفساد والمسؤولين عن الدين العام في المرحلة الماضية، وقد تمسّك المنتفضون لغاية الآن بهذا المطلب بعد أن استقالت الحكومة. في مقابل ذلك انقسمت القوى السياسية الممثلة في الحكومة المستقيلة، والموجودة في المجلس النيابي حيال هذا المطلب؛ ففي حين وافقت القوات اللبنانية والحزب التقدمي الاشتراكي وتيار المستقبل على تشكيل حكومة تكنوقرط، رفض التيار الوطني الحر، وحزب الله، وحركة أمل هذه الحكومة، وطالبوا بتشكيل حكومة مختلطة تضمّ أصحاب اختصاص وسياسيين، وأطلقوا عليها تسمية حكومة "تكنوسياسية". بينما لوّحت بعض القوى السياسية بخيار تشكيل حكومة من لون واحد، ولكنه كان طرحاً غير جدّي ولم يحظَ بأي اهتمام أو متابعة لإدراك الجميع أن فرصه غير ممكنة في ظل الأوضاع الاقتصادية وانتفاضة الشارع ومتابعة المجتمع الدولي لما يجري في لبنان. وعلي ذكر المجتمع الدولي، فإن تصريحات بعض المسؤوليين الغربيين والدوليين كانت توحي وتعطي مؤشرات حقيقية ودائمة عن ميل هذا المجتمع إلى تشكيل حكومة تكنوقرط تكون مهمتها إنقاذ الوضع في لبنان. وأمام هذا المشهد استمر السجال، واستمر التفاوض البعيد عن الاعلام، وأخّر رئيس الجمهورية الاستشارات النيابية الملزمة، وتواصل حراك الشارع المنتفض، كما تواصل الضغط الاقتصادي من خلال تبدّل سعر صرف الدولار في السوق الحرّة في لبنان، إلى ما هنالك من وسائل ضغط استخدمها كل طرف وفريق للوصول إلى ما يريد، وتواصلت مع ذلك الأزمة وغابت الحلول، فما هي الحكومة التي يحتاجها لبنان في هذه المرحلة حتى يتمكن من الخروج من الأزمة المركّبة والمعقّدة والتي تنذر بانزلاق الأمور إلى ما هو أسوأ؟؟

الواضح أن هناك ثلاثة أطراف رئيسية بات لها تأثيرها الكبير في مشهد تشكيل الحكومة. الطرف الأول هو القوى السياسية على اختلافها وتعددّها، فهي التي تشكّل المجلس النيابي، وهي التي ستسمي الرئيس الذي سيشكل الحكومة، وهي التي ستمنحها الثقة. وهذه الأطراف السياسية منقسمة، كما ورد، حيال شكل الحكومة، ولكن القوى التي تطالب بحكومة "تكنوسياسية" تملك حصة وازنة في المجلس النيابي تمكّنها من حجب الثقة عن أية حكومة قد تتشكّل من غير موافقتها، وبالتالي فهي مقرر رئيسي في تشكيل الحكومة ومنحها الثقة. الطرف الثاني في هذه المعادلة هو الشارع الذي انتفض على النظام السياسي، وعلى العهد، وعلى الحكومة، وعلى الطبقة السياسية، وطالب برحيل الجميع، وهذا الشارع يمتلك نقطة قوة مهمة هذه المرّة إذ أنه عابر للطوائف والمذاهب، ومتجاوز للقوى السياسية، ومصرّ على البقاء في الساحات والطرقات حتى تحقيق مطلبه في إنهاء كل مظاهر الفساد والنهب والمحاصصة والمصالح الضيّقة والخاصة التي تتبعها القوى السياسية، وقد استطاع أن يحقق إنجازات ليست بسيطة إذ أنه في الفترة الأخيرة استطاع أن يمنع انعقاد جلسة تشريعية للمجلس النيابي مرّتين، وأكد على أنه بات رقماً أساسياً في معادلة تشكيل الحكومة ودورها، وهو بالمناسبة يطالب بحكومة "تكنوقراط". وأما الطرف الثالث فهو المجتمع الدولي، أو دعونا نقول الدول المهتمة بالشأن اللبناني، والتي تتصرّف تحت عنوان "مساعدة لبنان" عبر العمل لإيجاد طرق وسبل تمويل الدورة الاقتصادية اللبنانية التي تعاني من تفاقم العجز والمديونية؛ وهذه الدول تملك نقطة قوة مهمة تتحكم من خلالها بجزء من مسار تشكيل الحكومة، وهي العصا المالية الاقتصادية. ويبدو أن هذه الدول، كل لمصلحتها، تميل إلى تشكيل حكومة "تكنوقراط".

أمام هذه المعادلة التي لا يمكن القفز فوقها أو تجاهلها بسهولة، بالنظر إلى اعتبار نقطة القوة التي يتمتع بها كل طرف، وحجم الحاجة إليه، لا بدّ من التفكير بتوليفة تكون جامعة بين هذه الأطراف، بحيث تقنع الشارع من ناحية، وتطمئن القوى السياسية المتوجّسة من ناحية أخرى، وتكون محل ثقة المجتمع الدولي من ناحية ثالثة، حتى تتمكن من البدء بمعالجة الوضع الاقتصادي الاجتماعي وحتى السياسي، وإلا فإن تمسّك كل طرف بمطلبه دونما اعتبار لمطالب الأطراف الأخرى سيعني الدخول في معركة صفرية غير واقعية بالنسبة للبلد، وسيعني ذلك فيما يعنيه الدخول في الفوضى والمجهول الذي يتجنّبه الجميع حتى الساعة.

لبنان بحاجة اليوم وفي هذه المرحلة إلى حكومة يمكن أن نسميها حكومة توازن وطني يتمثّل فيها الشارع المنتفض لمتابعة معركة مكافحة الفساد، وتحظى بثقة القوى السياسية حتى لو كان ذلك من خارج نادي السياسيين، ومن خلال حزبيين يتمتعون بالكفاءة والشفافية والمناقبية، وتكون محط ثقة المجتمع الدولي الذي يعوّل عليه الجميع لرفد الدورة الاقتصادية بالأموال اللازمة لتسيير العجلة والخروج من النفق المظم، وإلا فإن اللبنانيين سيكونون أمام مرحلة أكثر صعوبة وربما أكبر ثمناً على كثير من المستويات.