العدد 1515 /8-6-2022

بقلم: محمد العودات

في أثناء تواجدي في الأردن، تشرفت بدعوة من جمعية الإصلاح الثقافية في الصريح لإلقاء محاضرة عن مستقبل الإسلام السياسي في المنطقة العربية.

تم استعراض دراسة مستقبلية للدكتور وليد عبد الحي، أستاذ العلاقات الدولية في جامعة اليرموك، والتي أعدها في عام لصالح جامعة القدس 2015، عن مستقبل الإسلام السياسي، وخلص فيها إلى أن الإسلام السياسي سيكون في أضعف حالاته فيما بين عامي 2020 و2022.

ثم استعرضت الدلائل على الأرض التي تؤيد صحة هذه الدراسة بعد سنوات من صدورها، من خلال النتائج الانتخابية لعام 2020 والتي أوضحت أن القوة التصويتية للإسلام السياسي تراجعت في أربعة بلدان عربية في انتخابات 2020 مقارنة مع انتخابات 2016.

إذ تراجعت حصة حزب النهضة في البرلمان التونسي في عام 2014، فحصدت 69 مقعدا لتتراجع إلى 52 مقعدا في عام 2020، بنسبة تراجع بلغت 25 في المائة تقريبا، وتراجعت حصة حزب جبهة العمل الاسلامي في الأردن من 160 ألف صوت إلى 85 ألف صوت، ومن 16 مقعد إلى ثمانية مقاعد، بنسبة تراجع بلغت 50 في المائة، وتراجع حزب العدالة والتنمية المغربي من 125 مقعدا إلى 12 مقعدا، بنسبة تراجع بلغت 90 في المائة، وتراجع تجمع حدس في الكويت من أربعة مقاعد إلى ثلاثة مقاعد، بنسبة تراجع بلغت 25 في المائة.

بعد انتهاء المحاضرة بادر معالي الشيخ عبد الرحيم العكور، الوزير الأسبق، وهو من قدم الفقرة الأولى من الندوة؛ إلى السؤال: هل تعتقد أن الإسلام السياسي قادر على أن يستعيد قوته؟ الوقت كان أضيق بكثير من الإجابة على هذا السؤال الكبير من شخص كبير بحجم الشيخ عبد الرحيم العكور، فأضمرتُ في نفسي أن الجواب يحتاج مقالا مفصلا.

الجواب بكل تأكيد لن يستطيع الإسلام السياسي استعادة قوته بالصيغة الحالية التي قدم بها نفسه على مدار ستة عقود، وأن هناك فرقا ما بين مرحلة الاستهداف الأولى التي تعرض لها في زمن عبد الناصر، ومرحلة التجريف التي يتعرض لها بعد الربيع العربي من عدة وجوه:

- في مرحلة استهداف الخمسينات والستينات في مصر استطاعت جماعة الإخوان المسلمين، العمود الفقري للإسلام السياسي، أن تجد لها متنفسا آخر في دول الخليج العربي والأردن، مستفيدة من حالة الصراع ما بين الأنظمة الملكية والانظمة الجمهورية اليسارية، فوجدت لها موطأ قدم وإعادة تموضع وتنظيم صفوفها، ووجدت في المحنة فرصة سانحة لمساحات جديدة للعمل وإعادة تنظيم الصفوف والاستفادة من الوفرة المالية في دول الخليج.

- لكن في هذه المرحلة أصبح الحضن الدافئ للإخوان من أشد الخصوم لهم بعد الربيع العربي، ولا تكاد تجد أي دولة عربية على توافق أو احتضان مع الإخوان إلا دولة عربية واحدة، وقد لاحظنا في المرحلة الأخيرة حجم الاستدارات السياسية الكبيرة في تصالحها مع دول المقاطعة العربية. وهذا أيضا ما فعلته تركيا التي جمدت نشاط الإخوان وأوقفت منابرهم الإعلامية، وانفتحت على مصر ودول الخليج العربي.

- كان في وفاة خصم الإسلاميين اللدود، الرئيس المصري جمال عبد الناصر، فرصة بصعود الرئيس أنور السادات الذي وجد في الإفراج عن الإخوان وإعادة ترسيم العلاقة معهم وسيلة في التخلص من رجالات عبد الناصر في أجهزة الدولة، فاستفادت جماعة الإخوان من هذه الفرصة في إعادة تركيب أجزاء التنظيم المقطعة والانطلاق مرة أخرى من قبل أفراد النظام الخاص المتأثر بالفكر القطبي، فكان البناء الجديد بناء قطبيا بامتياز.

وإن كان هذا الخيار قد يتكرر مرة أخرى، فالتحولات السياسية التي ترث الأنظمة اللاديمقراطية المحكومة بحكم الفرد الواحد قد تكون كبيرة حد التناقض في حالة انتقال السلطة من شخص لشخص آخر لعدم وجود حكم المؤسسات، إلا أن مرحلة التجريف الحالية تمتاز بأن بؤر العداء متعددة وموزعة على جميع الأقاليم العربية. فحتى لو حدث تحول سياسي في بلد عربي فان بؤر العداء والتجريف للإسلام السياسية سوف تبقى في باقي الأقاليم العربية، مما يعني عدم تكرار مشهد السبعينيات وما جرى من الاستفادة من مرحلة السادات ورحيل عبد الناصر.

- بداية الصعود الملحوظ للإسلام السياسي كان في السبعينيات من القرن الماضي، على إثر نكسة ٦٧ والخسارة التي ألمّت بالحلم العربي القومي في دحر الاحتلال الإسرائيلي فوجدت الشعوب العربية في نظرية الإسلام السياسي المتكئة على بعض الآثار الدينية في الصراع العربي الإسرائيلي البديل ما يملأ الفراغ. إلا أننا نشهد حاليا تداعي نظرية الإسلام السياسي من الداخل، بعد أن أثبتت هذه النظرية السياسية في دول الربيع العربي أنها غير قادرة على الحياة والبقاء والاستمرار وعجز القائمين عليها ومن يمثلونها؛ عن اجتراح حلول لمشاكل حياة الناس اليومية من عمل وصحة وتعليم وبنية تحتية أو إحداث حالة نهوض في البلاد التي حكموها.

هذه النظرية بدأت بالتآكل لصالح النظرية الغربية في البناء والإصلاح التي تقوم على مبادئ الحرية والديمقراطية وحكم الشعب وتداول السلطة والدولة الوطنية المدنية والإيمان بالدولة القُطرية، في مقابل تآكل نظرية الدولة الأممية الإمبراطورية. كما أن الإسلام السياسي في تصوره للدولة الدينية قد وصل إلى النهايات بعد صعود داعش وترجمته تلك النظرية على أرض الواقع بشكل فج تصعب استساغته من قبل الشعوب العربية، فتم استهلاك النموذج الحلم الذي كان يبشر به الإسلام السياسي.

- كان لحالة الحرب الباردة في القرن الماضي بين المعسكر الشرقي والغربي فرصة، فاستطاع الإسلام السياسي أن يجد لنفسه مساحة للتحرك على حالة التناقض، فتحالف مع الغرب في مواجهة المد الشيوعي، وكانت ساحة أفغانستان المكان الذي ترجمت به هذه المناورات والاستفادة من حالة التناقض ما بين المعسكرين، إلا أنه في الوقت الحاضر يكاد الإسلام السياسي يشكل حالة خصومة مع جميع هذه الدول العظمى. لدى الإسلام السياسي مشكلة مع الصين في ملف الإيغور، ومشكلة مع روسيا في كثير من الملفات الداخلية والخارجية، ومشكلة مع الغرب الذي يصنف كثير من حركات الإسلام السياسي كمنظمات إرهابية، وتدرس بعض الدول الغربية إدراج الإخوان كمنظمة إرهابية.

بكل تأكيد أن الإسلام السياسي بصيغته ونظريته السياسية القديمة وخصوصا النظرية القطبية أصبح من الماضي، وأن عربة التاريخ السياسي قد تجاوزته، وأن حركات الإسلام السياسي سوف تتفسخ وتتناسل منها حركات بعضها سوف يجنح للتطرف والاندثار، وبعضها سوف يميل نحو الاندماج مع الأسرة الإنسانية والأخذ من التجربة العالمية ويسير وفقا للتجربة الغربية باعتبارها التطور الطبيعي لتطور الشعوب سياسيا، لكنها ستكون نماذج منعدمة الأدلجة بالمفهوم المعروف حاليا، ستكون نماذج محافظة متصالحة مع الدين، وفي ذات الوقت أقرب إلى المدنية السياسية وأقرب إلى الإيمان بالدولة القُطرية المدنية الحديثة.

هذا لا يعني دوام حالة اللا ديمقراطية والحكم المطلق في البيئات التي انتكس فيها الإسلام السياسي، فاللا ديمقراطية علامة من علامات تخلف الشعوب ورجعيتها، ومع عصر ثورة المعلومات والتواصل الاجتماعي سيزول التخلف وستزول معه مظاهره وأعراض اللا ديمقراطية.