العدد 1563 /17-5-2023

أنور الجمعاوي

يُعتبر زعيم حركة النهضة، ذات المرجعية الإسلامية، ورئيس البرلمان التونسي السابق، راشد الغنوشي (82 عاماً) من الوجوه السياسية البارزة التي قارعت الدولة الشمولية طويلاً، فقد خاصم الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة (1957ـ1987) ونقد سياساته الأحادية وانفراده بالسلطة، وعارض بشدّة تمسّكه بالحكم وتضييقه على المعارضين، وهيمنته على الشأن العام. وأدّى ذلك إلى اعتقاله، وإحالة كثيرين من أتباع حركة الاتجاه الإسلامي التي أسّسها مطلع الثمانينيات على محكمة أمن الدولة، وزجّهم في السجون. ومع صعود الجنرال زين العابدين بن علي إلى الرئاسة (1987 - 2011)، هادنت الحركة نسبياً حكمه الواعد في بدايته (1987 - 1989) وغيّرت اسمها إلى حركة النهضة، لكنّ نظام بن علي بعد أن أدرك الامتداد الشعبي للحركة في الانتخابات التشريعية (1989) التي شاركت فيها بقوائم مستقلّة، حظر أنشطتها، وشنّ ضدّها ملاحقاتٍ أمنية وقضائية واسعة، أدّت إلى اعتقال الآلاف وتعذيب كثيرين، وتشريد آخرين ومنعهم من العمل والسفر. فيما غادر الغنوشي البلاد، وتنقّل بين المنافي، مندّداً بسياسات الدولة القامعة في عهد بن علي. ومع سقوط الأخير، عقب ثورة المواطنين على منظومته الاستبدادية، عاد الغنوشي من المنفى، وحصلت حركة النهضة على تأشيرة العمل القانوني.

خلال عشرية الانتقال الديمقراطي، انتقلت "النهضة" إلى العمل العلني، وانتقل الغنوشي من كونه معارضاً شرساً للنظام الحاكم إلى مشارك، بشكل مباشر أو غير مباشر، في منظومة الحكم، وساهم وحزبه وشركاء آخرين في هندسة معالم التجربة الديمقراطية ومأسستها من خلال المشاركة في انتخابات برلمانية، وتشكيل حكوماتٍ ائتلافية، وصياغة دستور توافقي، وتركيز مجلس أعلى للقضاء، وهيئات مدنية/ رقابية مستقلّة. ولم تنخرط حركة النهضة، بشهادة دارسين في الداخل والخارج، في مسار أسلمة الدولة وأخونة المجتمع، ولم تُصادر الحريات العامّة والخاصّة. بل مدّت جسور التواصل مع مخالفيها، وخصومها السياسيين وحكمت معهم. وعُرف الغنوشي بنزعته البراغماتية، وميوله التوافقية، وترويجه مقولة "الإسلام الديمقراطي". ويعتب عليه معارضوه من داخل حركة النهضة وخارجها تطبيعه مع النظام القديم من خلال التمكين لبعض وجوهه في مفاصل الدولة، وعدم تمرير قانون العزل السياسي لمن تورّطوا في دعم الديكتاتورية، والتحالف مع حركة نداء تونس بقيادة رئيس البلاد السابق، الباجي قايد السبسي، وتمرير قانون المصالحة الاقتصادية مع رجال أعمال وإداريين حامت حولهم شبهات فساد.

ومع رحيل السبسي، وجّه راشد الغنوشي أنصاره للتصويت لقيس سعيّد في الدور الثاني من الانتخابات الرئاسية 2019، وهو ما عزّز حظوظ سعيّد في الفوز بكرسي رئاسة الجمهورية. ومع وصول هذا الأخير إلى قصر قرطاج، احتدم الخلاف بيْنه وبيْن الغنوشي الذي أصبح رئيس البرلمان عقب الانتخابات التشريعية في 2019، وتنازع الطرفان الصلاحيات وكيفية إدارة البلاد عموما، والعلاقات الخارجية خصوصاً.

ومع فشل حركة النهضة في تمرير حكومة الحبيب الجملي، آل الأمر إلى قيس سعيّد الذي عيّن حكومة الرئيس الأولى بقيادة إلياس الفخفاخ، والثانية بقيادة هشام المشيشي، وأمام تحالف هذه الأخيرة مع حركة النهضة و"قلب تونس" وائتلاف الكرامة، وفشلها في إدارة معضلة كورونا وفي حلّ الأزمة الاقتصادية، أمر سعيّد بغلق البرلمان المنتخب، وحلّ حكومة المشيشي، ونصّب بدلا عنها حكومة نجلاء بودن، وألغى الدستور، وحلّ المجلس الأعلى للقضاء، وغيّر تركيبة هيئة الانتخابات وعدّل القانون الانتخابي، وحكم البلاد بالمراسيم. وعدّت حركة النهضة التدابير الرئاسية المعلنة يوم 25/07/2021 وما تلاها من قراراتٍ ومخرجاتٍ انقلاباً على الدستور والتجربة الديمقراطية. وجدّ راشد الغنوشي في معارضتها والتنديد بها. وبلغت المواجهة بين الطرفين أوجها أخيرا باعتقال زعيم حركة النهضة، وغلق مقرّها المركزي في العاصمة التونسية، ومنع عقد اجتماعات في فروعها المحلية والجهوية. وذلك إثر تصريح الغنوشي في اجتماع في مقرّ جبهة الخلاص الوطني، قائلاً: "تصوّر تونس دون إسلام سياسي... دون يسار ... دون هذا الطرف أو ذاك هو مشروع حرب أهلية". ويحمل إيقاف الغنوشي في طيّه تداعيات عدّة.

سياسياً، تجتمع في راشد الغنوشي عدّة رمزيات، فهو زعيم أكبر حزب سياسي في تونس، ورئيس برلمان سابق، وأحد دعاة الاعتدال والدمقرطة في تيار الإسلام السياسي، وله علاقات واسعة في الداخل والخارج. وفي اعتقاله ثم الحكم عليه بالسجن عاما محاولة لتحجيم فاعلية حركة النهضة خصوصا، وجبهة الخلاص المعارضة عموماً، باعتبار "النهضة" المكوّن الرئيسي لها. كما أنّ في سجن الرجل إعلاناً لقطيعة نهائية مع نظام الحكم البرلماني، وتركيزاً لحكم رئاسي، يتصدّره قيس سعيّد الذي يظهر في صورة الرجل القوي الذي يتحدّى المعارضين على اختلاف عمقهم الشعبي. والمراد توسيع دائرة أنصار الرئيس، لتشمل أشياع أحزاب قصووية معروفة بعدائها الإسلام السياسي، مثل الحزب الدستوري الحر، وحركة الديمقراطيين الوطنيين، والتيار الشعبي، وحركة الشعب، وحراك 25 يوليو التي اعتبرت قياداتُها اعتقال الغنوشي قراراً صائباً، بل جاء متأخّراً. كما رحّبت جماعات سلفية متشدّدة بتنحية حركة النهضة عن السلطة وإزاحة زعيمها من رئاسة البرلمان، معتبرة أنّه "يجني ثمار اتّباعه سنّة الغرب وتحالفه مع علمانيين وليبراليين، وعدم جدّيته في إقامة دولة إسلامية في تونس".

في المقابل، عبّرت بعض الأحزاب، مثل جبهة الخلاص والتيار الديمقراطي وحزب العمّال، تلميحاً أو تصريحاً عن "اعتراضها على إيقاف الغنوشي على خلفية تصريح"، وعدّت ذلك محاولةً لإسكات أصوات المعارضين للنظام الحاكم ولتعميم ثقافة الخوف بين الناس. في حين لزمت أحزاب أخرى الصمت، محاذيةً الجدران القائمة، مدّعية أنّ الأمر مجرّد خلاف شخصي على السلطة بين قيس سعيّد وراشد الغنوشي. ومع أنّ رئيس الجمهورية قد كسب باعتقال الغنوشي تأييد بعض الأحزاب الأقلّوية الصغيرة في الشارع التونسي، إلا أنّ ذلك لا يعني، بحسب مراقبين، ازدياد شعبيته. ذلك أنّه يخسر عملياً أصوات محافظين وإسلاميين كثيرين مناصرين للغنوشي، والذين صوّتوا له خلال رئاسيات 2019. ومن غير البعيد، بحسب مراقبين أن تستثمر حركة النهضة في سجن الرجل، فتعيد إنتاج خطاب المظلومية، وإظهار الغنوشي في صورة القائد/ الضحية، والشيخ/ المقاوم الذي يتحدّى النظام القائم، فيتمّ تحويل المحنة إلى منحة على نحو يزيد من شعبية رئيس الحركة، وامتداد الحزب، والتفاف الأنصار حوله.

من الناحية الاجتماعية، يمكن القول إنّ سجن الغنوشي أدّى إلى انقسام داخل المجتمع التونسي بين مناصرين للحدث ومعارضين له. ويستحضر مؤيّدو إيداع الرجل السجن شعار ضرورة محاسبة من حكموا خلال العشرية المنقضية، وتحميلهم شبهات الفساد وأعمال العنف وعثرات الانتقال الديمقراطي. ويحتجّ معارضو إيقافه بأنّ الغنوشي لم يتولّ مناصب قيادية تنفيذية أو مباشرة باستثناء إشرافه على تسيير البرلمان زهاء سنتين، ولا توجد أدلّة ثابتة تدينه بحسب محاميه، ولم يحكم حزبه البلد وحده. بل بشراكة مع آخرين (المؤتمر من أجل الجمهورية، التكتل من أجل العمل والحريات، نداء تونس، التيار الديمقراطي، حركة الشعب). لذلك يذهبون إلى أنّ الرجل يدفع ثمن تمسّكه بالعودة إلى المسار الديمقراطي، ومعارضته الشديدة منظومة 25 يوليو ومخرجاتها. وقد أدّى الخلاف بين الفريقين إلى احتدام الاستقطاب بين أتباع قيس سعيّد وأنصار راشد الغنوشي في الفضاء العام، وفي شبكات التواصل الاجتماعي خصوصاً.

اقتصادياً، رأى متابعون للشأن التونسي أنّ القبض على الغنوشي، وحظر الاجتماعات في مقرّات حركة النهضة، لم يحسّنا المقدرة الشرائية للمواطنين، ولم يخفّضا ارتفاع الأسعار ومنسوب الاحتكار، ولم يُفضيا إلى توفير موادّ غذائية مفقودة، بل هبطت أسعار السندات التونسية إلى مستويات منخفضة قياسية وأصبح معظمها عند نصف قيمتها الاسمية تقريبا بعد انخفاضها بما يتراوح بين 0.2 و1.3 سنت. وتضاءل، بالتزامن مع ذلك،.

وعلى الصعيدين، الحقوقي والدولي، أثار اعتقال الغنوشي ومنع الاجتماعات في مقرّات حركة النهضة حفيظة منظمات حقوقية وقوى دولية. أعرب الاتحاد الأوروبي عن "قلقه الشديد" إزاء ما اعتبره "تدهوراً سريعاً للوضع السياسي في تونس"، وأكّدت المتحدّثة باسمه، نبيلة مصرالي، أهمّية "التعدّدية السياسية بوصفها ضرورية لأي ديمقراطية، وأساس شراكة الاتحاد الأوروبي مع تونس". وحذّرت وزيرة الخارجية الألمانية، أنالينا بربوك، مِن تراجع تونس عن "أساسيات ديمقراطيتها". وقال فيدان باتل، النائب الرئيس للمتحدّث باسم الخارجية الأميركية: "إن اعتقال رئيس البرلمان السابق، راشد الغنوشي، وإغلاق مقرّ حزب النهضة، وحظر اجتماعات بعض الأحزاب المعارضة يمثل تصعيدًا مقلقًا من الحكومة التونسية ضد المعارضين"، و"يتعارض مع الدستور التونسي الذي يضمن حرية الرأي والتعبير"، و"التزام الحكومة التونسية باحترام حقوق الإنسان ضروري لديمقراطية نشطة وللعلاقة بين الولايات المتحدة وتونس".

ختاماً، جرّب النظام الحاكم في تونس قبل الثورة التعاطي القضائي والأمني في التعامل مع خصومه السياسيين، ولم يؤدّ ذلك سوى إلى إنتاج المعاناة، والإحباط والاستياء وازدياد شعبية المعارضين، فالممنوع مرغوبٌ فيه. لذلك أحرى بالسلطات التونسية مدّ جسور الحوار مع معارضيها خدمة للصالح العام وتأميناً لثقافة الاختلاف، فتونس تتّسع للجميع.