العدد 1418 / 24-6-2020

بقلم : كمال عبد اللطيف

تحل هذه السنة ذكرى هزيمة حزيران 1967، لتشعرنا باتساع المسافة بيننا وبين الحلم الفلسطيني في حدوده الدنيا وبين واقع الحال. لا وقت اليوم للبكاء، ولا للنحيب الحار والصامت، وأن الزمن مُوَاتٍ، على الرغم من كل علامات التراجع في الصفين الفلسطيني والعربي، للتفكير في المخارج التي يمكن أن تُسعِف بتدارُك ما يمكن تداركُه، أي لتحويل مناسبة الذكرى إلى أفقٍ لرسم معالم طريقٍ يسمح بتجاوُز النفق المُظلِم ومقاومة العواصف والأوبئة المصاحِبة له، والوقوف في وجه مخططات العدو على الأرض، بأساليب العمل السياسي والنضالي المناسبين لمقتضيات الحال والمآل.

تحل الذكرى في وقت تتجه فيه الحكومة الإسرائيلية، وبدعم أميركي، وتواطؤ عربي مُعلن وصامت، إلى ضم الأغوار والمستوطنات في الضفة الغربية إلى إسرائيل التي تواصل تنفيذ مشاريعها المتعلقة ببناء المستوطنات.. حيث أعلنت، أخيرا، بناء مستوطنة في الجولان تحمل اسم ترامب.. الأمر الذي يفيد بأن إرادة التوسع الاستيطاني الإسرائيلي تواصل أساليبها، في مزيد من الاستحواذ على ما تبقَّى من الأرض الفلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة، غير مبالية بالقانون الدولي، وبمختلف بنود ومواثيق اتفاقيات السلام والتعايش.

يُبرز مشروع الخطة الإسرائيلية الجديدة أن إسرائيل تواصل سياستها العدوانية على أكثر من جبهة وواجهة. إنها تراقب ما يجري في البلدان العربية، وفي محيطها الإقليمي، وتنخرط في مزيد من توسيع علاقاتها الدبلوماسية والاقتصادية في المشرق والمغرب العربيين، حيث تضاعفت، في السنوات الأخيرة، سياسات التطبيع في الخليج العربي وفي المغرب العربي الكبير، التطبيع المعلن والتطبيع المقنع.. وصمت مؤسسات المنتظم الدولي عن مختلف الاستراتيجيات الاستعمارية التي يجري التمهيد لها على مرأى ومشهد من العالم أجمع.

وللاقتراب أكثر من واقع الحال الفلسطيني وواقع الغطرسة الإسرائيلي، فإنّ مشاريع العدوان والضَّم والإلحاق، ومشاريع السَّطو والعنف والترهيب والتهجير، التي قرّرت إسرائيل مواصلة القيام بها، تواكِب تدهوراً متواصلاً في الأوضاع الفلسطينية، حيث لا تزال الخلافات قائمةً بين سلطة الحكم الذاتي في كل من الضفة والقطاع، ولا تزال الخلافات قائمة في مسألة أنماط المواجهات التي تقتضيها سياقات تحوّل المنطقة العربية، وسياقات التصعيد الإسرائيلي الهادفة إلى تحقيق مشروعها في فلسطين، وفي مزيد من اختراق المشهد السياسي العربي. ولن تستطيع ردود الفعل الفلسطينية على مشروع ضَمّ إسرائيل الأغوار ومستوطنات الضفة أن تُرَكِّب الخيارات والمواقف المرتبطة بالمشروع الوطني الفلسطيني.

أما التدهور المتواصل في الأوضاع العربية، فقد تزايد تحت تأثير تَبعات ما بعد الثورات العربية والثورات المضادّة، وأصبحنا أمام وضع عربي بلا أفق سياسي مُحَدَّد. اختفت التطلعات والشعارات التي تغنَّى بها الجميع زمن المدّ التحرّري، فأصبحنا اليوم بلا أفق، يسمح بترتيب وتدبير موقف سياسي مؤسَّسي عربي، موحَّد أو مشترك، وبلا أفق تُرَكِّبه وتدافع عنه مؤسسات العمل العربي الإقليمية، وأغلبها مُعطّل، أو تؤطّرها مؤسسة جامعة الدول العربية، وقد تحوَّلت إلى مؤسسةٍ لا حول لها.. في وقتٍ تضاعفت حاجة العرب إليها، حيث تواجه المجموعة العربية تحدّيات جديدة، وحيث تنخرط القِوى الإقليمية والدولية في رسم خطط جديدة في التدخل، وفي مزيد من صناعة خرائط تُوَظِّفُ من أجل بلوغها أطرافاً عربية ضد أطرافٍ أخرى، حيث تحضر بعض دول الخليج في اليمن، وتحضر مصر وتركيا في ليبيا، وتحضر إيران في العراق وسورية ولبنان. من دون أن نتحدّث عن القِوى الدولية التي تُوَجِّه عن بُعْد مسارات الصراع وشعاراته، وكذا خططه القريبة والبعيدة.

ارتفعت، في ضوء المشار إليه، مؤشرات التطبيع مع إسرائيل، مقابل نزول أسهم المساندة الفعلية للفلسطينيين، ومناطق الحكم الذاتي المتعثر في الضفة والقطاع .. ووصل التدهور العربي إلى حالةٍ أصبح فيها العرب عاجزين عن الاستماع إلى بعضهم، والتفكير في كيفيات مواجهة القِوى الإقليمية والدولية. وتَخَطَّى الصراع المتواصل في العراق وسورية وليبيا واليمن وفي الخليج العربي سياقات الربيع العربي وتداعياته. لقد أصبح العرب اليوم خارج منطق زمن الثورات العربية، أي خارج معادلات الإصلاح والثورة، وخارج منطق مواجهة الاستبداد والفساد. ويمكن أن يضاف إلى ذلك أنهم أصبحوا أيضاً خارج أفق البحث عن سبل مواجَهة إسرائيل، وداعمها الأكبر الولايات المتحدة. ولكن ما العمل أمام العواصف القائمة؟ ما العمل أمام صور تصاعُد الغطرسة والعدوان الإسرائيليين؟

لا أمتلك الشجاعة الكافية للحديث عن خيار المقاومة، في سياقات الراهن العربي والفلسطيني. ولا أمتلك القدرة التي يمتلكها بعضهم، فأطالب الأنظمة العربية بمقاطعة إسرائيل، ووقف مسلسلات التطبيع الجارية .. أقول هذا لأنني لا أستطيع أيضاً التسليم بالانهيار الكلي، فقد تعلمت من التاريخ أن قضايا التحرّر مطالبةٌ بأن تختار، وهي في قلب العاصفة، حتى لا يَحصلَ تفسُّخُ ما تبقى من وهجها وعنفوانها. وهو يعلمنا أيضاً، أنه في حال عجزها عن الحركة والفعل، سيلحقها مصير آخر، كثير من علاماته يمكن معاينتها اليوم في الراهن العربي والفلسطيني.