فدوى حلمي

عقب موجة الهجمات التي عصفت بالعاصمة الفرنسيّة «باريس» في شهر كانون الثاني لعام 2015، اتخذت الحكومة الفرنسية مجموعة تدابير علاجيّة للحدّ من امتداد التطرّف، كان من أبرزها ما جاء في إعلان «مانويل فالس» رئيس الوزراء الفرنسيّ السابق في الثالث من شهر آذار 2015، بأنّ الحكومة الفرنسيّة بصدد تنفيذ خطّة لمضاعفة عدد المساقات الجامعية التي تُدرّس الإسلام في الجامعات الفرنسية، وأنّ الدولة سوف تقوم بدفع جميع نفقات تعليم هذه المساقات، وسيكون التسجيل فيها مجانياً بحيث لا يدفع الطالب أيّة أقساط لدراستها، وأردف فالس قائلاً في تصريحه: «لطالما كان التّعليمُ قاضياً أساسياً على الجهل الذي يسمح للتطرّف اليمينيّ بتغذية التطرّف الإسلاميّ».
وتضمّنت الخطة الفرنسية كذلك مضاعفة عدد أئمة المساجد. وكان اللافت في تصريح فالس تأكيده أنّ الدولة الفرنسيّة لن تفرض بأيّ شكل من الأشكال سيطرتها على تدريس الإسلام في الجامعات ولن تُحدّد ماهيّة مساقات الشريعة التي يجب أن تُدرّس، وشدّد على أنّه لن تكون هناك أيّة قوانين أو توجيهات عُليا تُدير عملية توزيع هذه المساقات في الجامعات الفرنسيّة أو آلية تدريسها.
وفي خطوة مماثلة للتجربة الفرنسيّة، تبنّت بلجيكا في عام 2016 برنامجاً لمكافحة التطرّف قدّمه «جان ماركورت» وزير التعليم العالي. وقد بلغت كلفة دفعته الأولى للعام الأول 470.000 يورو، جاء البرنامج في ثمانية تدابير من أهمّها: قيام جامعة «لوفان الكاثوليكيّة» أقدم جامعة تُدرّس العقيدة الكاثوليكيّة في بلجيكا، وتحتّل مرتبة متقدمة بين الجامعات العالميّة بمنح درجة جامعيّة في العلوم الشرعيّة تُعدُّ شرط توظيف أساسيّ لمدرّسي التربيّة الإسلاميّة والفكر الإسلاميّ في وزارة التعليم البلجيكيّة. أُطلقت هذه المبادرة بالتعاون مع الهيئة التنفيذيّة لمسلمي بلجيكا وبإشراف مباشر من الأستاذ صلاح الشلاوي المفتش الأول للتربيّة الإسلاميّة في فيدرالية «والونيا-بروكسل» لضمان تدريس الإسلام من قبل أهل الاختصاص، وقد سبق لجامعة لوفان إطلاق برنامج العقيدة الإسلامية للمرة الأولى عام 2014 بدعم وتمويل حكوميّ لإيجاد «إطار أكاديميّ علميّ للإسلام» كما صرّح «باسكال سميث» وزير التعليم الفلمنكي آنذاك الذي قام بتحويل مائة ألف يورو كمنحة حكوميّة لتدريس مساقات العقيدة الإسلاميّة في جامعة لوفان لعام 2014/2015.
شملت تدابير البرنامج البلجيكيّ لمكافحة التطرّف اعتماد إنشاء معهد تعليم عال لترويج وتعزيز التعليم الإسلامي، يمنح درجة البكالوريوس والماجستير في الشريعة، والعمل على تطوير المعهد مستقبلاً ليصبح جامعة إسلاميّة، وإنشاء كرسي جامعي بين الجامعات لتعليم الإسلام المعاصر وتنمية التحليل النقديّ للفكر الإسلاميّ، وإطلاق برنامج إذاعي إسلاميّ على الموجات الرسمية، ورعاية دورات تعليمية في العقيدة والتدريب المجتمعي للمستشارين العاملين في مصلحة السجون والمستشفيات وبرامج حماية الشباب.
وأمّا في هولندا فقامت الحكومة الهولندية برعاية برنامج تدريس العقيدة الإسلامية في الجامعة الحرّة في «أمستردام»، وهي أكبر جامعة بروتستنتية في هولندا، ودعمت الحكومة الهولنديّة هذا البرنامج بمنحة مقدارها مليونا يورو، يشمل البكالوريس والماجستير وكذلك تعليم اللغة العربيّة، ونشطت الحكومة في رعاية تدريس العقيدة الإسلاميّة في جامعة «لايدن» وهي واحدة من أقدم الجامعات الهولندية ومنحتها مبلغ 2.4 مليون يورو لإطلاق البرنامج. كما منحت وزارة التعليم الهولنديّة تمويلاً مالياً لجامعة «هوغيشول» لتقديم التدريب العملي لمعلمي التربية الإسلامية العاملين في مدارس المرحلة الثانوية الهولندية.
نهجت الحكومة الألمانية ذات الاستراتيجية في تعزيز تدريس الشريعة في الجامعات الألمانيّة ضمن خطّة هدفت إلى إطلاق برامج تعليم العقيدة الإسلاميّة في الجامعات ومضاعفة أعداد المراكز الإسلاميّة، على أن تتكفل الحكومة الألمانيّة بدفع رواتب أساتذة الجامعات وجميع العاملين في تدريس العقيدة الإسلاميّة لمدة خمسة أعوام تبدأ من عام 2013 وقد قُدّرت ميزانيّة هذه الخطة بعشرين مليون يورو، وبرّرت الحكومة الألمانية خطتها هذه بأنها الترياق الذي سيعالج خطاب الكراهية. وقد علّق «توماس راشيل» مساعد وزير التعليم الألماني على هذه الخطة آنذاك «بأنّ ارتفاع أعداد المراكز الإسلامية المموّلَة من قبل الحكومة الألمانية هو تطوّر تاريخي، فالعقيدة الإسلامية ستصبح راسخة في الجامعات الألمانية، وبالتالي في المجتمع الألماني».
مضت السويد في خريف عام 2016 بإطلاق برنامج تعليم العقيدة الإسلاميّة والقيادة مدّته عام، بتمويل حكوميّ لمن يرغبون بامتهان العمل الدعويّ أو إمامة المساجد لمواجهة خطاب التشدّد والكراهية، على أن تكون هذه السنة الدراسية مُقدّمة ستلحقها سنوات مقبلة لتوسيع التخصّص ونطاق البرنامج التعليميّ، وأكّدت السلطات السويديّة بأنّ الحكومة لن تتدخل في تحديد المناهج الإسلامية المـعتمدة لتحقيق الحيادية، وأنّ دورها مقتصرٌ على التمويل.
وفي إيطاليا حيث ثمانية مساجد دائمة مسجّلة رسميّاً لـــ1.6 مليون مسلم يقطنون إيطاليا، وبعد قيام السلطات الإيطاليّة في شهر تشرين الأول لعام 2016 بإغلاق خمسة مساجد مؤقتة، نجد أنّ استراتجيتها اختلفت في شهر كانون الثاني لعام 2017 عندما أصدرت مجموعة تعليمات جديدة شملت إنشاء أماكن عبادة جديدة للمسلمين، وطرح برنامج لتدريس مساقات إسلامية في ستّ جامعات إيطالية بإشراف جامعة «بولونيا» الجامعة الأقدم في أوروبا، و بتمويل حكومي من وزارة الداخلية الإيطالية بمبلغ 92.000 يورو، ضمن برنامج اعتمدته الحكومة الإيطالية للحدّ من التطرّف وتحقيق التكامل المجتمعي، وتدعو الأئمة المسلمين في إيطاليا للالتحاق به.
هذه الخطط الأوروبية مرهونة إلى حدّ كبير بمدى انخراط المجتمع الإسلاميّ الأوروبيّ في إنجاحها لضمان مُخرجاتها وفق رؤية إسلامية ناضجة، توازن بين متطلبات الحياة في العالم الأوروبي وبين الهويّة الإسلاميّة، وقد تُشكّل هذه الخطط موجة وعي إسلاميّ جديدة من شأنها تنقية الظهور الإسلاميّ في الغرب من ترسّبات استشراقية وأخرى حديثة تُغذّيها حلقة الإرهاب الضاجّة بممارسات تُنسب إلى الإسلام هنا وهناك. لكن ما بات واضحاً من تبنّي أوروبا لهذه الخطط هو إدراك الدول العلمانية الغربية أنّ مواجهة الفكر المتطرّف لا تتحقّق بتفكيك منظومة الشريعة الإسلامية داخل المجتمعات بكل ما تمثّله هذه المنظومة من مساجد وأئمة وغيرها، ولا من خلال استهداف المخزون الفكريّ للمسلمين المتمثّل بالعلوم الشرعيّة لمناهضة الإسلام باعتباره الخصم. فالاستراتيجيات الأوروبيّة استدلّت إلى أنّ أبعاد الحالة المتطرّفة متداخلة بفهم مشوّه عن الإسلام يُقدّم هذا الفهم أطروحاته للناشئة بمغلفات النّصوص الدينيّة، المسألة التي لا يتيسّر علاجُها بحظر النّص، فمن البديهيّ أنّ الحظر سيوفّر حقّ احتكار تعليم النّص للجماعات المتطرّفة لتنشط بيئة العزل المجتمعيّ التي يديرها الفكر المتطرّف في وضعية تصادم دائم مع مجتمعاتها لإيمانها بالتفوقيّة الدينيّة على الآخرين، و مع كل حظر ستولُد خلية مُتأهّبة لفهم الإسلام بمعايير الديناميت، والفرصة الوحيدة للنجاة ليس بتقديم الفكر البديل فحسب، بل بمضاعفته وتحفيز الإقبال عليه بشتّى الوسائل الممكنة، فمُرتكز الاتجاه الفلسفيّ للجماعات المتطرّفة أنّ للإسلام فهماً واحداً يحرسه حماة العقيدة كأوصياء على المسلمين قبل الإسلام، وصاية وهبتها لهم السماء لاستئثارهم بهذا الفهم المتفرّد.