العدد 1416 / 10-6-2020

سري سمور

يوم الخامس من حزيران1976 (صفر 1387 هـ) كان يوماً له ما بعده، وترتبت عليه آثار وتداعيات وتبعات لا تزال أمـتنا تعيشها، ولا أبالغ إن قلت بأن معظم ما نعيش اليوم هو نتاج ذلك اليوم!

في ذلك اليوم وُضعت النقاط على الحروف؛ وتبين فعلياً أنه لم يكن ثمة توجه جدّي وحقيقي عند العرب لإزالة السرطان الصهيوني، ذلك السرطان الذي كان قد أكل 78% من أرض فلسطين بما فيها غربي مدينة القدس، وقد اكتمل احتلال كل فلسطين الانتدابية من النهر إلى البحر بما في ذلك شرقي القدس وهو الشطر الذي يضم أولى القبلتين وثالث المسجدين، أي أن الحدث فيما يخص فلسطين برمزيته أكثر مما يتعلق بحجم ومساحة الأرض المسلوبة، ويضاف إلى ذلك احتلال شبه جزيرة سيناء ومرتفعات الجولان.

بهذه الهزيمة أو النكبة الجديدة أو كما اصطلح على تسميتها (النكسة) مع أن تلك التسمية خداع للنفس أو للجماهير ولا تعبر عن حقيقة ما جرى، بهذه الحالة (سمّها ما تشاء) تحوّلت توجهات العرب المعلنة على الأقل، من مشروع تصفية الكيان العبري إلى قبوله أمراً واقعاً ينبغي التعايش معه، وانتهاج التفاوض الجماعي أو الفردي ليقبل الكيان بالتنازل عن بعض ما سلبه، أما لاءات الخرطوم المعروفة (لا صلح ولا تفاوض ولا اعتراف) فقد ثبت بالدليل العملي والمرئي أنها مجرد شعارات لا محلّ لها من الممارسة الفعلية.

مرت 53 سنة على تلك الفاجعة المؤلمة، وكبر جيل واكتهل جيل ومات جيل ونحن نعاني آلامها وتبعاتها وحين نرى أن عاصمة اللاءات الثلاث صارت منخرطة في التطبيع المعلن مع الكيان العبري الذي لا حدود مشتركة معه، فتقدم لها خدمات جوية، وحين صار الفلسطيني المنكوب بنكبات متتالية متهماً باتهامات باطلة يرددها أشقاء عرب، وحين نرى التحوّل من مقاطعة بلغت في بعض الأحيان مقاطعة شركات أجنبية لأنها تتعامل مع شركات تستورد أو تصدر للكيان، إلى حالة معاكسة يقاطع فيها أجانب الكيان ويتعامل معه عرب بيعا وشراء وغير ذلك، وحين نرى كيف صارت اللقاءات والاجتماعات والمعاملات علنية يعلن الكيان أنه لا يرضى أن تكون سريّة، بل يفاخر ويتبجح بها بعض العرب ممن يقترفها بلا ذرة حياء أو ضمير، حين نرى ذلك وغيره وغيره فإننا ندرك أن آثار هزيمة 1967 أعمق وأوسع مما حسب السابقون أو اللاحقون؛ هي هزيمة لم تكن فقط في الميدان العسكري، بل تعدته إلى ما كان يظن أنه حصن حصين، وهو الحالة المعنوية والنفسية الرافضة لوجوده ولو تغلّب عليها في معركة أو معارك فإنه ليس مطروحا أن يقبل الكيان العربي هزيمته في الحرب والصراع، وإذ به لا يتعامل فقط بمنطق المهزوم في الحرب بل يتصهين قطاع منه ويتبنى الرؤية الصهيونية بما يثير القرف!

لم يتم التعامل مع الهزيمة وفق منطق المراجعة والمحاسبة الذي أكّد عليه القرآن الكريم بعد أن أصيب المسلمون في أحد بسبعين شهيداً، وهو نهج أي دولة أو كيان أو جيش أو مؤسسة تحترم ذاتها.. وللمفارقة فإنه نهج العدو نفسه بعد كل مواجهة سواء خرج منها غالباً أو مغلوباً أو بين بين، ولذلك استمر في تحقيق الاختراقات المتراكمة القائمة على العلم والعمل الميداني والتخطيط المحكم البعيد عن الارتجال والعشوائية الذي لم يحابي ولم يجامل رجاله الذين حفروا أساسات الكيان. لقد تمّ تصوير الأمر بطريقة كاريكاتورية وانقسم الناس فيما بينهم، فمنهم من رأى أن الكفر والإلحاد هو طريق الخروج من الهزيمة، وكأن الجيوش العربية ذهبت إلى الحرب رافعة رايات الإسلام؛ ومنهم من قال بأن العدو مادام قد فشل في إنهاء الأنظمة العربية الثورية والقومية فقد باء بخسران مبين، أما ما احتله من أراض، فلا بأس أن نعمل على (إزالة آثار العدوان) وما زالوا العمل جاريا!

حال العرب اليوم معروف؛ وللتذكير لا الإعلام فهم في تمزق فوق تمزقاتهم السابقة؛ وليس لهم بين الأمم منبر للسيف أو للقلم، كما في تعبير (عمر أبو ريشة) قبل عقود، وحال فلسطين ومقدساتها محزن، ويستعد الكيان لاستكمال ما بدأه منذ تأسيسه والخروج بإعلان عرض الحلقة الأخيرة! ولكن هل معنى ذلك أن القصة قد انتهت والمشهد الختامي سيعرض وتسير الحياة على هذا المنوال؟ كلا.. والذي رفع السماوات بغير عمد.

فحين ترى أهل القدس القابضين على الجمر، يستميتون في الدفاع عن المسجد الأقصى وترى حرائر مرابطات فيه لا يخشين إلا الله ولا يطلبن إلا رضاه بعزيمتهن ورباطهن، وحين ترى الأطفال في شوارع مخيمات ومدن وقرى جنين ونابلس ورام الله والخليل وبيت لحم وغيرها يرشقون جنود الاحتلال المذعورين بحجارة الأرض الطاهرة، وحيت ترى غزة المحاصرة تجترح أساليب وأدوات المقاومة والصمود ولو بحفر الأرض، في مواجهة جيش مدعوم بكل شيء من الأمريكان والروس والإنجليز والفرنسيين والطليان والصينيين والهنود، و-يا للحسرة- يستقوي بهوان الوحدات السياسية العربية و(وهنها) والتي تريد أن تقذف في وعي مئات الملايين ألا فائدة، فالهزيمة اكتملت و(ما كان كان) وعلى مئات الملايين تقديم صكوك الطاعة إلى بضعة ملايين من اللصوص القادمين من أصقاع العالم…حين ترى ذلك تدرك أن الله سبحانه وتعالى لن يضيع الحق، وأن ما يجري هو تمييز الخبيث من الطيّب، وستدرك –لو فكرت قليلا- بأنه قد اقترب الوعد بتصحيح المعادلة واعتدال الميزان.. وتقويم اعوجاج فنيت في ثناياه أجيال وأخرى هرمت.

(وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ)