غازي دحمان

كلّما ارتكب نظام الأسد مجزرة تكون لها تداعيات على المستوى الدولي وتنذر بحصول مخاطر على النظام، يتحول مؤيدوه إلى فلاسفة وعقلانيين ويلبسون ثوب الحكمة الفضفاض.
أسئلة كثيرة طرحها هؤلاء على صفحات الجرائد وشاشات الفضائيات وعبر مواقع التواصل الاجتماعي، الهدف منها التشويش على الرأي العام وخلق حالة من البلبلة والتشكيك وتجهيل الفاعل في مرحلة أولى، ثم تبرئة نظام الأسد واتهام الضحايا بقتل أنفسهم.
وليظهروا على شاكلة الطرف الموضوعي والعقلاني، يبدأون بمقدمات تدين القتل واستخدام الكيماوي بغض النظر عن الجهة التي قامت به، كما يضيفون أنهم لا يبرّئون أحداً، وبعد أن يطمئنّوا بأنهم أخذوا القارئ (الضحيّة) للجهة التي يريدون، ثم يبدأون بنهش عقله ومهاجمة مداركه بوقاحة ووحشية.
لماذا يرتكب نظام الأسد مثل هذه الفعلة غداة استدارة مواقف الدول الكبرى منه؟ كما أن النظام يحقق إنجازات ميدانية على جبهات القتال دون الحاجة للأسلحة الكيماوية؟ ثم إن النظام العاقل والمتزن لا يمكن أن يطلق النار على قدميه وهو في وضع جيد.
لكن كل تلك القراءات التي طالبت بالمنطق في رؤية وتفسير مجزرة الكيماوي، ورغم شكلانية المنطق في طرحها إلا أنها بدت قراءات غرضية وسطحية بدرجة كبيرة، لماذا؟
أولاً: لأنها تنزع الحادثة عن سياق عريض، فهل كان منطقياً قتل مئات آلاف السوريين وتهجير الملايين على أسس طائفية، وإخفاء مئات الآلاف وتغييبهم، وقتل عشرات آلاف السجناء؟ ألم يقل أنصار الطاغية: «الأسد أو نحرق البلد»؟ هل كان تدمير مدن سورية عملاً منطقياً؟ وأين المنطق في تصرفات نظام أباد البشر والحجر حتى تطالب أبواقه باستعمال المنطق لقراءة جريمة واحدة في سياق متدفق من جرائم الحرب؟
ثانياً: إن اعتبار أن الأسد في وضع جيد وغير مضطر للقيام بمثل هذا العمل ليس أكثر من توصيف لحالة افتراضية أكثر منها واقعية، حالة يمكن استخدامها للترويج الإعلامي والدبلوماسي لإثبات أن الأسد طرف أساسي ولا يمكن تجاوزه في أي تسوية، أما الحقيقة فهي أن المعطيات تتغير كل يوم وقابلة للتغير في توازنات القوى، كما أن الأسد يقع تحت ضغوط كبيرة، وعامل الوقت لم يعد مساعداً له، ويحاول استباق مفاوضات جنيف بتحقيق أكبر قدر من المكاسب.
ثالثاً: ثم إنه لمجرد اعتقاد نظام الأسد أنه في وضع جيّد، فهو يحتاج إلى تزخيم هذا الوضع إلى أقصى درجة ويضغط على الخصم بكل الوسائل لكي يزيد من حجم مكاسبه، ثم القول إن النظام مرتاح في مسألة نسبيّة إلى حد بعيد، ذلك أنه لا يزال مستنزفاً بدرجة كبيرة في درعا وحماة ودمشق وحمص.
رابعاً: توهم الأسد، أو اعتقد، أنه أمام فرصة سانحة تتمثل بإعلان أمريكا أنها غير معنية بإسقاطه، ولا شك في أنه أجرى تقييماً للتطورات والمتغيرات، ورأى أن من الخطأ عدم استغلاله للفرصة التي تنطوي عليها هذه التغييرات، وهو أراد تحت سقف هذه الفرصة رفع وتيرة إجرامه لإضعاف عزيمة الثوار ودفع بيئاتهم للاستسلام.
خامساً: إضافة لذلك فالأسد خاضع بدرجة كبيرة لطرفين خارجيّين «روسيا وإيران» لديهما تقديراتهما الخاصة ورسائلهما التي يراد إيصالها إلى القوى الأخرى، وهما على استعداد لرفع سقف المغامرة في سورية لاختيار التوجهات الدولية أو لإثبات قوتهما، فروسيا تعتقد أن لديها هامش مناورة تستطيع إلغاء المخاطر المحتملة من ردة فعل أمريكية، وإيران تعتقد أن ترامب لن يغامر بضرب الأسد تحسباً لموقف روسيا.
لم ينتبه دعاة المنطق إلى حقيقة أن استخدام النظام السوري للكيماوي لم يتوقف لحظة منذ تراجع أوباما عن تهديداته، وليست مجزرة خان شيخون مقطوعة الصلة عن هذا السياق، فقد استخدم نظام الأسد الأسلحة الكيماوية حوالي 140 مرّة، وفي شهر آذار الماضي استخدم الكيماوي مرات عديدة، كان آخرها في مدينة اللطامنة بريف حماة، بل إن الكيماوي شكّل العنصر الحاسم في تقدم قوات الأسد في حلب، وقد كشفت منظمة حظر الأسلحة الكيماوية أن نظام الأسد استخدم بشكل منظم وممنهج الأسلحة الكيماوية على طول فترة حربه ضد الشعب السوري.