الشيخ محمد حمود

عندما كان النبي | يدعو زعماء قريش ويعرض عليهم الإسلام، ليكفّوا بأسهم عن أصحابه رضي الله عنهم، وذلك في اليوم الذي خصصه لذلك، أتى عبد الله بن أم مكتوم يستقرئ النبي | آية في كتاب الله، وقال للنبي: علمني مما علمك الله، وقد كان لا يعلم بأمر ذلك اليوم المخصص فقط لدعوة زعماء قريش، فأعرض الرسول عنه، وتولى نحو أولئك الزعماء من قريش، و أقبل عليهم. الله عليه بعض بصره، وأحس كأن شيئاً يخفق برأسه، ثم أنزل الله عليه سورة من أجل هذا الصحابي الجليل، تثني على حرصه على العلم، وتوضح مكانته، وأنه عند الله أهم من زعماء قريش، وتعاتب النبي | الذي هو أحب خلق الله إليه، بآيات تتلى ليوم القيامة >عبس وتولى أن جاءه الأعمب..<. 
عبد الله بن أم مكتوم كان من السابقين إلى الإسلام، وعاش محنة المسلمين بمكة بكل ما حفلت به من تضحية وثبات وصمود وفداء، وعاين من أذى قريش ما عاناه أصحابه، وبلا من بطشهم و قسوتهم ما بلوه، فما لانت له قناة، وإنما زاده ذلك استمساكاً بدين الله، وتعلّقًا بكتاب الله وتفقها في شرع الله، و إقبالاً على رسول الله صلوات الله وسلامه عليه. جاهد في سبيل الله، وقد تولى العديد من المناصب، فهو يتميز بصفات كثيرة يعجز القلم عن ذكرها.
أول سفير في الإسلام، وأول مهاجر إلى المدينة،  وصاحبه مصعب بن عمير، أرسلهما رسول الله | للمدينة ليكونا معلمين لأهلها يدعوهم لدين الله، ويقرآنهم القرآن، ويفقهانهم في دين الله، ويمهدان لهجرة النبي | والصحابة.
استخلفه النبي | على المدينة عند غيابه عنها بضع عشرة مرة، كانت إحداها يوم أن غادرها لفتح مكة.
كان ابن أم مكتوم رجلاً أعمى من أهل الأعذار، ولكنه رأى النور بقلبه فسار في الطريق يلتمس له نوراً، جاء إلى النبي | يوماً يقول: بيتي بعيد والطريق كله هوام، وليس لي قائد يقودني إلى المسجد. فقال |: أتسمع النداء؟ قال: نعم، فقال له |: لا أجد لك عذراً.
وفي السنة الرابعة عشرة للهجرة عقد عمر بن الخطاب العزم على أن يخوض مع الفرس معركة فاصلة، تزيل دولتهم وملكهم وتفتح الطريق أمام جيوش المسلمين، فكتب إلى عماله يقول: لا تدعوا أحداً له سلاح، أو فرس، أو خبرة، أو رأي، إلا وجهتموه إلي، والعجل العجل.
وطفقت جموع المسلمين تلبي نداء الفاروق، وكان في هؤلاء المجاهدين عبد الله بن أم مكتوم، ونحن هنا لا نتحدث عن أقوياء ولا عن أصحاء، بل نتحدث عن أهل الأعذار، ولكن أعذارهم لم تحل بينهم وبين الوصول إلى الله تبارك وتعالى، فإذا بـعمر رضي الله عنه يقول له: إلى أين تذهب يا ابن أم مكتوم وأنت ممن عذرك الله؟ أما قال الله عز وجل: >لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ<؟ فقال: تحول بيني وبين الشهادة يا ابن الخطاب؟ فقال رضي الله عنه: وماذا تصنع معهم؟ قال أكثّر سواد المسلمين.
فخرج مع من خرج، ولما صُفّت الصفوف لم يقل: أقف في الصفوف الخلفية، واحموني من النبال وضرب الرماح، بل وقف في وسط المعركة وقال أنا أحمل لكم الراية اليوم. وهل تدري معنى مسؤولية حمل الراية؟ فالراية لا يحملها إلا الأبطال، لا يحمل الراية إلا من هو أهل لحمل الراية، لأن حاملها مستهدف في أرض المعركة لاسقاط الراية. وما سقطت الراية من يد الأعمى، انتهت المعركة مع غروب ذلك اليوم، فبحثوا عن ابن أم مكتوم فإذا هو متبسم قد فارق الحياة، يحتضن تلك الراية، وقد نصر الله المسلمين في ذلك اليوم نصراً مؤزراً.
السؤال الأخير، هو كيف خرج من الدنيا؟ خرج من أجل إعلاء هذه الراية. وكيف يبعث؟ يبعث بين ملايين البشر الذين لا يحصيهم إلا الله وهو يرفع هذه الراية. ففي ذلك اليوم الذي سيجمع الله فيه الأولين والآخرين، كم هم الذين يحملون هذه الراية؟ وكم هم الذين عاشوا من أجلها؟ وكم هم الذين ضحوا في سبيلها؟ اللهم اجعلنا منهم ومعهم.