محمد حمود

 
لم تثر شخصية تركية من الجدل والاختلاف في النصف الثاني من القرن العشرين ما أثاره السياسي والمفكر الإسلامي الأستاذ الدكتور نجم الدين أربكان، المعروف في الأوساط التركية باسم (أبو السبع أرواح)، فتأمُّل سيرته يقودنا مباشرة إلى قول علي رضي الله عنه: إذا أقبلت الدنيا على أحد أعطته محاسن غيره، وإذا أدبرت عنه سلبته محاسن نفسه. فهذا الرجل الذي أسس خمسة أحزاب سياسية، وحَكم وسُجن وحُظر نشاطه السياسي أكثر من مرة وفُرضت عليه الإقامة الجبرية، والذي ارتقى حتى شاع عنه اصطلاح «الظاهرة الأربكانية»، وأبدى أعداؤه إعجاباً وخوفاً منه في الوقت نفسه، وتحشدت حوله الملايين ليس من الأتراك فحسب ولكن من أرجاء العالم الإسلامي، هذا الرجل جدير بأن تكرس لسيرته وفكره المؤلفات.
إن ظهور سياسي إسلامي في تركيا العلمانية يرتقي إلى السلطة بالوسائل «الديمقراطية» دون أن يتخلى عن مبادئه الإسلامية هي ظاهرة فريدة بالنسبة للدول الإسلامية. فهل يعود الفضل في ذلك إلى النظام العلماني الذي أفسح المجال للإسلاميين إذا التزموا بالمبادئ الديمقراطية أن يصلوا إلى السلطة، أم مطاولة نجم الدين أربكان وصبره ونفَسه الطويل لمدة ثلاثين سنة لتحقيق أهدافه؟ مما لا شك فيه أن الجواب الثاني هو الأصح، لأن النظام العلماني طوال ثلاثة عقود كان يضع العراقيل تلو العراقيل أمام أربكان دون أن يثنيه عن مواصلة السير باتجاه أسلمة المؤسسات العلمانية عبر طريق شاق ووعر، كانت له أصداؤه اللافتة للنظر لدى شعوب العالم الإسلامي، وأثيرت تساؤلات كثيرة حينها حول إمكانية قيام تركيا من جديد بدور فاعل في الإسلام.
يُعد نجم الدين أربكان – الذي يتحدر من أسرة عريقة من نسل الأمراء السلاجقة – محور أي حديث سياسي عن الإسلام في تركيا المعاصرة، بوصفه أحد أبرز قادة الفكر الإسلامي في ظل (الديمقراطية) التركية وتيار الحركة الإسلامية السياسية، وقد أدى دوره الكبير على الساحة السياسية.
حصل أربكان بحكم أنه رجل صناعي بعد انجاز دراسته العليا في ألمانيا على عضوية مجلس الغرف الصناعية والتجارية في إستنبول عام 1959 بجانب توليه رئيس إدارة شركة مصنع المحرك الفضي. ثم أصبح أميناً عاماً وعضواً في مجلس إدارة اتحاد الغرف الصناعية والتجارية ثم رئيساً له بقرار من حزب العدالة. وهو منصب مهم أتاح له فرصة الانطلاق للدخول في عالم السياسة، وسرعان ما تم عزله من منصبه هذا بعد منعه الاستيراد والتصدير من وإلى (إسرائيل).
تمكن أربكان من إحداث تحول سياسي بعد أقل من نصف قرن على ولادة الجمهورية التركية، عندما أعلن مع ثماني عشرة شخصية تأسيس حزب النظام الوطني في 24/1/1970، واستطاع أربكان المعروف كسب تأييد العديد من الشخصيات الصناعية، وإقناع المفكرين والناشطين الإسلاميين والنواب المسلمين في البرلمان بالانتماء إلى الحزب الإسلامي الهوية، على الرغم من تشديد الدستور التركي لسنة 1961 ومنعه تأسيس أحزاب سياسة ذات هوية إسلامية.
وبهمته العالية التي لا يشوبها اليأس ولا الكلل، قام مع ثلة من اخوانه بتأسيس حزب جديد بعد أن حُلّ الحزب القديم من قِبَل العسكر، وهو حزب السلامة الوطني في عام 1973. ثم تولى أربكان منصب نائب رئيس حكومة ائتلافية بين حزبه وحزب الشعب الجمهوري اليساري، استطاع أربكان إحياء المشاريع الصناعية فبدأ بحملة كبيرة لإقامة مصانع حربية لتزويد تركيا بما تحتاج إليه من سلاح وقطع غيار بدلاً من اعتمادها على الدول الأجنبية. كما شيّد عشرة معاهد إسلامية وفتح ثلاثة آلاف مدرسة للقرآن في القرى.. الى أن حصل انقلاب 1980 لحماية المبادئ الأتاتوركية بدعم خارجي، وإلغاء حزب السلامة الوطني ومنع أربكان من ممارسة النشاط السياسي، ثم قام بتأسيس حزب الرفاه، مما ساهم في الصعود المتواصل للحركة الإسلامية الذي توّج بتوليها السلطة عام 1996 إثر فوز حزب الرفاه في الانتخابات ووصaوله الى السلطة في ائتلاف حكومي مع حزب الطريق الصحيح، إلى أن تمكنت الأوساط العلمانية بما فيها المؤسسة العسكرية من الإطاحة بها بعد أن قامت بحملة ضدها من خلال التلويح بقيام إنقلاب عسكري، والعمل بعكس قراراتها وسياساتها الخارجية، فكانت الحكومة بواد والمؤسسة العسكرية بواد في التعامل مع الملفات الخارجية كالقضية القبرصية مثلاً والأكراد في العراق وغيرها... إلى أن قدّم أربكان استقالة حكومته أواخر عام 1997.
أثبت أربكان في القضايا التي تعامل معها في السياستين الداخلية والخارجية، أنه لو أتيح لحكومته أن تواصل الطريق وتستكمل الأسباب، فإنها ستحقق لتركيا انجازات مدهشة من المكاسب في مجابهة المشاكل الداخلية الاقتصادية والعرقية، وستنقل تركيا في الوقت نفسه لأداء دور أكثر فاعلية على المستوى الإسلامي والقاري والعالمي، تقف في قمته محاولة إقامة اتحاد اقتصادي إسلامي آسيوى أفريقي في مواجهة التغوّل الغربي، عجزت القيادات العربية والإسلامية عن تحقيقه، بل التفكير به على مدى عشرات السنين.