العدد 1360 / 1-5-2019

بقلم : عادل بن عبد الله

المسار السياسي لرئيس الحكومة يوسف الشاهد يثير العديد من التساؤلات التي نقدّر الحاجة إلى مقاربتها، بعيدا عن الاختزالية الطابعة لمواقف أنصاره وخصومه.

وليس هدفنا في هذا المقال أن نقيّم مقارنة شاملة بين المخلوع ابن علي وبين رئيس الوزراء التونسي الحالي، ولكنّ وجود الكثير من نقاط التشابه بينهما يغري باستشراف المآلات الممكنة (أو المرجوّة من وجهة نظر يوسف الشاهد ذاته) لمسار تقني في المجال الفلاحي؛ تحوّل بعد الثورة إلى شخصية محورية في السلطة التنفيذية. فأوّل وجوه التشابه بين الرجلين هو في "الطفرة الوظيفية" أو الانعطافة السياسية التي حصلت عندما تحول الأمني (المخلوع ابن علي) إلى رئيس جمهورية، وتحوّل "تقني المعرفة" (يوسف الشاهد) إلى رئيس حكومة. ورغم اختلاف السياقات التي سمحت بهذا التدرج الوظيفي عند الرجلين، فإن الثابت البنيوي المرتبط بطبيعة السلطة الجهوية قد يُقلل من التناقض الظاهر بين البدايات المتواضعة والمآلات "السريالية" وغير المتوقعة.

الثورة بما هي مصعد سياسي لأعدائها

قد يكون من مكر التاريخ بتونس (أو لنقل من مكر المنظومة القديمة وحلفائها بها) أن تكون الثورة قد ساهمت في التدرج الوظيفي، وفي مراكمة الثروات المادية والرمزية لأعدائها أكثر مما فعلت بأبنائها. ولعل في الصعود المدوّي ليوسف الشاهد أكبر دليل على ذلك، فلولا الثورة، لم تكن الحياة المهنية لرئيس الوزراء الحالي لتتجاوز منصب مدير أو ملحق بسفارة أو خبير لدى بعض الجهات الدولية. ولكنّ الثورة التي حررت أعداءها قبل مناصريها؛ فتحت الباب أمام هذا "التكنوقراط" ليصبح شخصية محورية في المشهد التونسي. وإذا كان ابن علي قد انقلب على الميثاق الوطني الذي منحه الشرعية أو المقبولية، لتجاوز وسم الانقلاب على الرئيس بورقيبة، فإن يوسف الشاهد قد انقلب على رئيس الجمهورية الذي كان بمثابة "الأب السياسي" له، بل انقلب على وثيقة قرطاج وما تضمنته من توصيات أو مطالب هي أقرب إلى شروط منح الثقة لحكومته. إننا أمام شخصيتين انقلابيتين لا تفرّق بينهما إلا السياقات، ولكنّ الملمح الانقلابي سيكون أخطر عند رئيس حكومة لم يأت على ظهر دبابة، كما هو شأن المخلوع، بل جاءت به توافقات سياسية ترتبط بالثورة وبمسار الانتقال الديمقراطي، مهما كانت تعثراته.

عندما جاء المخلوع ابن علي بانقلاب 7 تشرين الثاني 1987، لم يكن سقف انتظارات التونسيين يتجاوز تحسين شروط العبودية داخل منظومة الحكم. ورغم كل أبواق الدعاية الرسمية (وشبه الرسمية)، كان من الواضح أنّ الحكم قد غيّر نواته الصلبة ببعض الكيلومترات (من المنستير إلى حمام سوسة)، وكان واضحا أيضا أن من اكتسب شرعيته بـ"الغلبة" (على حد تعبير القدامى) لا يمكن أن يكون قاطرة لتحوّل ديمقراطي حقيقي. وقد وقف الإسلاميون بدرجة أولى (حركة الاتجاه الإسلامي بما مورس عليها من قمع واستئصال) ثم العلمانيون (القوى "الديمقراطية" التي تحالفت مع المخلوع ثم انقلب عليها ليقتل الحقل السياسي كله) على هذا الواقع، لكن بعد فوات الأوان. أما يوسف الشاهد، فقد جاءت به استراتيجية الهيمنة التي أراد رئيس الجمهورية ممارستها على رئاسة الحكومة، وهي استراتيجية تقاطعت موضوعيا مع استراتيجيات خارجية راغبة في تعميق التبعية والتخلف والارتهان لمؤسسات النهب الدولية.

الإعلام بين التحرر ونوازع التذيل

بفضل سيطرته على وسائل الإعلام، عبر وكالة الاتصال الخارجي وعبر بوليسه السياسي، استطاع ابن علي أن يجعل من الخطاب الرسمي "خطاب الحقيقة" والشرعية والوطنية، وهو ما جعل من تونس تتحرك (قبل إدارة ترامب ذاتها) في ما يُسمى بثقافة "ما بعد الحقيقة". وبحكم غياب وسائل الاتصال الحديث ووسائل التواصل الاجتماعي، استطاع ابن علي أن يهيمن على وسائل الإعلام التقليدية؛ بصورة جعلت من باقي الخطابات مجرد تعبيرات احتجاجية معزولة وغير قادرة على التحشيد والتعبئة.

ورغم تعددية الأصوات وغياب المركزية في المشهد الإعلامي التونسي بعد الثورة، فإن رئيس الحكومة وفريقه الإعلامي يصرون على إحياء سياسات المخلوع والانقلاب على مسار الانتقال الديمقراطي، عبر توظيف أجهزة الدولة في صراعاتهم السياسية والحزبية. وقد يكون إغلاق "قناة نسمة الفضائية" بالقوة العامة أكبر مؤشر على هذا التداخل/ التعامد المريب بين أجهزة الدولة، وبين الهيئة الدستورية التي من المفترض بها أن تقوم بوظيفة التعديل للمشهد الإعلامي (أي الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي البصري المسمّاة اختصارا بـ"الهايكا").

فكل التونسيين يعلمون تعلق قضايا خطيرة بأغلب أصحاب القنوات الخاصة، كما يعلمون أيضا أن الكثير من تلك القنوات تقدم مضامين هي أقرب إلى البرامج الإباحية أو المحضرة على التقاتل بين الأهالي، ولكننا لم نرَ القوة العامة تغلق أي قناة منها. وهو ما يشير إلى أن المسألة تتجاوز مستوى تطبيق القانون، لتصبح مجرد انتقام من منافس سياسي. ولعل ما يزيد في مصداقية هذه الفرضية؛ أنه قد سبق لرئيس الحكومة أن وظف الملفات القضائية لضرب خصومه السياسيين .

استراتجية الهيمنة وصناعة المستبد

رغم اختلاف السياقات، فإن ما يجمع بين المخلوع ويوسف الشاهد أكثر مما يُفرقهما. فهما يشتركان في الانتماء إلى النواة الجهوية الصلبة للحكم منذ الاستقلال الصوري عن فرنسا (البلدية- السواحلية)، ويشتركان أيضا في توظيف أجهزة الدولة لخدمة طموحاتهما السياسية (تكوين "التجمع الدستوري" وحزب "تحيا تونس")، وكذلك في توظيف القضاء المدني والعسكري لضرب خصومهما (ضرب النهضة وكل قوى المعارضة العلمانية الراديكالية في عهد المخلوع، وضرب المنافسين السياسيين وهيئة الحقيقة والكرامة واستقلالية الإعلام في عهد يوسف الشاهد). وإذا كان المخلوع قد امتلك في بداياته نوعا من الرأسمال الرمزي الذي ارتبط بـ"التغيير" وبالفسحة الديمقراطية التي عاشتها تونس مدة سنتين، فإن يوسف الشاهد قد فشل في مراكمة أي رأسمال رمزي خارج أبواق الدعاية التي تتحدث عن مقاومته للفساد.

ولكنّ الفشل الاتصالي، وغياب أي قدرات زعاماتية حقيقية يبررها الماضي النضالي أو الأداء الحكومي، لم يمنع يوسف الشاهد من التحول لـ"ظاهرة سياسية" مهددة للانتقال الديمقراطي برمته. وبالإضافة إلى الأرقام المفزعة التي ترتبط بحكومة يوسف الشاهد، فإن سبب خطورة هذه الشخصية يعود في تقديرنا إلى مصادر قوته ذاتها. إنه "ذئب سياسي منفرد" في الظاهر، وهو مثل كل الذئاب المنفردة يشتغل لفائدة جهة عليا تعطي لفعله السياسي معنى ووجهة. ولعل ما يثير المخاوف المشروعة لشريحة واسعة من التونسيين هو وجهة مشروعه السياسي الشخصي والحزبي، خاصةً وأنّ العديد من القرائن تشير إلى رغبته في التحول إلى زعيم حزبي ومن ثمة إلى زعيم وطني، لكنها زعامة تستنسخ العقل السياسي "للمخلوع" ونظامه، وهو ذلك العقل الذي يرفض تعددية الزعامة ولامركزية القرار ومأسسة بنود الدستور، ومن باب أولى لن يقبل بالتحرر من البنية الجهوية- الزبونية للسلطة؛ ومن خياراتها اللاوطنية داخليا وخارجيا.