العدد 1688 /5-11-2025

كما في كل قضية يُقحم الرئيس الأميركي دونالد ترامب نفسه فيها فجأة، تُثار التساؤلات حول دوافعه وحدود تحرّكاته، وما إذا كانت ستقتصر على مناوشات وضغوط سياسية وإعلامية، أم ستتطور إلى تحركات عسكرية في ظل انشغاله هذه المرحلة بتهديد دولٍ واحدة تلو الأخرى، وآخرها نيجيريا بزعم "إبادة المسيحيين في نيجيريا". ويبدو أن الحملة التي غذّاها أعضاء في الكونغرس وجماعات إنجيلية قريبة من ترامب، والتي حوّرت الأزمة الأمنية التي تعاني منها نيجيريا عن واقعها الذي يطاول جميع المواطنين، تفرض نفسها حتى على وزارة الدفاع الأميركية (بنتاغون) إذ عندما هدد ترامب بشكل مفاجئ في مطلع هذا الأسبوع عبر وسائل التواصل الاجتماعي بتنفيذ ضربات في نيجيريا، أجاب وزير الحرب الأميركي بيت هيغسيث بسرعة "أمرك سيدي" بينما أثارت تغريدات ترامب وتصريحاته صدمة داخل أروقة الوزارة إذ بدت وكأنها تفرض أولويات جديدة وغير متوقعة.

وعلى الرغم من محاولات أبوجا الرد على ادعاءات ترامب، بل وطلب الرئيس النيجيري بولا تينوبو عقد اجتماع مع نظيره الأميركي، إلا أن ترامب واصل تصعيده وصولاً إلى طلبه التحضير لعمل عسكري في نيجيريا. مع العلم أنها ليست المرة الأولى التي يخصص فيها ترامب وقتاً لملف ما، مصوباً تركيزه الكامل عليه، إذ اعتاد فعل ذلك منذ بدء ولايته الثانية في 20 يناير/كانون الثاني الماضي.

ورغم أن وزير الحرب الأميركي لم يتردد بالموافقة على طلب ترامب التجهيز لعمل عسكري في نيجيريا، لكن عدداً من المسؤولين في الوزارة، تحدثوا لوكالة رويترز، ووصفوا شعورهم بالصدمة من أوامر ترامب، وهم يحاولون فهم أولويات إدارة رفعت في الأشهر القليلة الماضية من شأن قضايا كانت في السابق هي آخر اهتماماتها مثل التجارب النووية والديمقراطية في فنزويلا وتهريب الكوكايين. وتوقع مسؤولو "بنتاغون" على نطاق واسع أن تعطي إدارة ترامب الأولوية لأمن الحدود، والقوة العسكرية المتنامية للصين، والضغط على حلفاء حلف شمال الأطلسي (ناتو) لبذل المزيد من الجهود للوقوف في وجه روسيا. لكن إعلانات مختلفة أصدرها ترامب في الأسبوع الماضي، حول أمور مثل التجارب النووية ونيجيريا، فاجأت الكثيرين وبدت وكأنها تعيد ترتيب أولويات "بنتاغون".

ترامب وأولوية نيجيريا

وتعليقاً على إعلان ترامب المفاجئ حول نيجيريا، قال أحد المسؤولين العسكريين الأميركيين، مشترطاً عدم نشر هويته، لوكالة رويترز: "أعتقد أن الأمر يصل إلى علمنا جميعاً في الوقت نفسه". بدوره، اعتبر مسؤول دفاعي أميركي في حديثٍ لـ"رويترز"، أن بعض أفراد الجيش الأميركي توقعوا أن ترامب قد يتخذ إجراءً بعد أن تحدث السيناتور الأميركي تيد كروز عن المسيحيين في نيجيريا، في شهري سبتمبر/أيلول وأكتوبر/تشرين الأول الماضيين. وقال كروز في حينه، إن المسؤولين النيجيريين سمحوا "بإبادة جماعية للمسيحيين" شملت عشرات الآلاف من عمليات القتل على مدى 15 سنة الماضية. لكن المسؤول الدفاعي لم يكن على علم بأي أوامر محددة بتنفيذ عمليات في نيجيريا.

ولم يتضح ماذا بالتحديد دفع ترامب إلى تصعيده ضد نيجيريا السبت الماضي. وقالت المتحدثة باسم البيت الأبيض آنا كيلي في تصريحات صحافية: "يستمع الرئيس ترامب إلى العديد من مستشاريه الموثوق بهم في أي قضية. ولكنه صاحب القول الفصل في كل ما يتعلق بالسياسة الخارجية، وبالنسبة لهذا الأمر، كان مدفوعاً للتحرك ضد التهديد الذي يتعرض له مصير المسيحيين في نيجيريا". كذلك، اعتبر الزعيم الإنجيلي غجاري باور في حديثٍ لـ"رويترز"، أن أشخاصاً يشعرون بقلق متزايد إزاء الهجمات على المسيحيين ضغطوا على ترامب قبل أن يصدر تحذيره لنيجيريا. وقال باور: "أعلم أن الرئيس سمع من الكثيرين أن عليه اتخاذ إجراء". وجاء تهديد ترامب بعد يوم واحد من إضافة إدارته نيجيريا إلى قائمة "الدول التي تثير القلق بشكل خاص" والتي تضم دولا تقول الولايات المتحدة إنها تنتهك الحريات الدينية.

وقالت فيكتوريا كوتس، المسؤولة السابقة في إدارة ترامب والتي تعمل الآن في مؤسسة هيريتدج، لـ"رويترز"، إن نيجيريا بوصفها دولة منتجة رئيسية للنفط، تحتاج إلى توفير الأمن لطمأنة شركات النفط بأن بإمكانها القيام بأعمالها بأمان هناك. وأضافت "الوضع مزر للغاية". وقال محللون لـ"رويترز"، إن معظم ضحايا عنف المتشددين هم من المسلمين. وقال المبعوث الأميركي السابق إلى المنطقة جيه. بيتر فام لـ"رويترز"، وقد شغل هذا المنصب خلال فترة ولاية ترامب الأولى (2017 ـ 2021)، إن المسيحيين عانوا على نحو غير متناسب مع عددهم بالنسبة لتعداد سكان نيجيريا. وأضاف "على أقل تقدير يثير (ترامب) الوعي بقضية أعتقد أنه تم تجاهلها منذ فترة طويلة".

في المقابل، نقلت شبكة "سي أن أن"، مساء الاثنين، عن مصدرين قولهما إن ترامب كان في طريقه إلى فلوريدا الجمعة الماضي، عندما شاهد تقريراً لقناة فوكس نيوز، قناته المفضلة، عن "استهداف المسيحيين بنيجيريا"، فاستشاط غضباً "على الفور وطلب مزيداً من المعلومات حول الأمر". ووفق "سي أن أن" فقد تم استدعاء أفراد من القيادة العسكرية الأميركية في أفريقيا "أفريكوم" بشكل مفاجئ عقب منشور ترامب الذي لوح بعمل عسكري في نيجيريا.

وفيما رفضت نيجيريا في البداية تصريحات ترامب بشأن قتل المسيحيين، قال مساعد الرئيس النيجيري دانيال بوالا، الأحد الماضي، إن الرئيس النيجيري بولا تينوبو قد يلتقي ترامب قريباً في البيت الأبيض أو على الأراضي النيجيرية لمناقشة الوضع المتعلق بحماية المسيحيين من الهجمات. وأضاف بوالا: "وفيما يتعلق بالاختلافات حول ما إذا كان الإرهابيون يستهدفون المسيحيين أو أبناء جميع الأديان والملحدين، فإن كل هذه الخلافات، إن وجدت، ستتم مناقشتها وحلها من قبل الزعيمين خلال اجتماعهما في الأيام المقبلة، والذي سيعقد إما في مقر الحكومة النيجيرية أو البيت الأبيض". وقال: "إن رئيسي البلدين مهتمان بمكافحة الإرهاب، ونشكر الولايات المتحدة على دعمها". وأكد بوالا أن "الرئيس ترامب قدم دعماً كبيراً لنيجيريا بموافقته على مبيعات الأسلحة لبلادنا، وقد استغل الرئيس تينوبو هذه الفرصة على أكمل وجه. لقد حققنا نتائج ملموسة في مكافحة الإرهاب، ونحن مستعدون لإثبات ذلك".

من جهته، تحدث وزير إقليم العاصمة الاتحادية النيجيرية، نيسوم وايك، عن الموضوع، مشيراً في تصريحات إلى قناة "تشانيلز" النيجيرية، مساء الاثنين، إلى أنه "لا أعلم من أين تستقي إدارة ترامب معلوماتها، ولا أريد ذلك. لكن لا أحد في وسعه القول إن هذه الحكومة تغلق عينيها أمام إبادة أتباع دين ما. لست سعيداً بأن الإرهابيين يقتلون الناس، إنهم يقتلون مسيحيين ومسلمين". وأضاف: "انا مسيحي ووالدي كاهن. هل يعقل أن الحكومة تبيد المسيحيين وأنا مستمر فيها؟"، معدداً المناصب الأمنية التي يتبؤها مسيحيون في نيجيريا، مثل قائد الشرطة ومسؤول الأمن ووزير الدفاع. وأوضح أن ريمي تينوبو، زوجة الرئيس النيجيري بولا تينوبو (مسلم الديانة)، هي كاهنة أيضاً وفق التقويم البروتستانتي المسيحي.

وأعرب المتحدث باسم الرئاسة النيجيرية بايو أونانوغا، عن صدمة السلطات "لأن الرئيس ترامب يفكر في غزو بلدنا"، معتبراً في حديثٍ لقناة "سي أن أن" مساء الاثنين، أن "هناك حيرة من تصريحات الرئيس الأميركي". لكن الكاهن جون جوزيف هياب، رئيس الجمعية المسيحية النيجيرية، في المنطقة الشمالية من البلاد حيث تنتشر هجمات المسلحين، وافق في حديث لقناة "سي أن أن" على ادعاءات ترامب، معتبراً أنه مع ذلك "انخفض حجم عمليات القتل".

كذلك، أكد وزير الخارجية النيجيري يوسف توغار، أمس الثلاثاء، أن دستور البلاد لا يسمح بالاضطهاد الديني. وقال في مؤتمر صحافي في برلين: "من المستحيل أن تدعم حكومة نيجيريا أي اضطهاد ديني بأي طريقة أو شكل وعلى أي مستوى كان". لكن بولاما بوكارتي، المدافع النيجيري عن حقوق الإنسان والمتخصص في الأمن والتنمية، شكّك في تصريحات ترامب، وقال لـ"سي أن أن" إن تصريحات ترامب "تعكس تبسيطاً خطيراً للأزمة الأمنية المعقدة في نيجيريا". وأضاف: "الادعاء بوجود مذبحة جماعية للمسيحيين من قبل المتطرفين الإسلاميين، يشوّه الواقع على الأرض ويخاطر بتعميق الانقسامات في بلد يعاني بالفعل من ضغوط هائلة".

تناقضات وأرقام

وحول الأرقام المتاحة حول قتل المسيحيين في نيجيريا، أفادت منظمة Armed Conflict Location & Event Data، وهي مجموعة لمراقبة الأزمات، في تقرير بأن أكثر من 20400 مدني قتلوا في هجمات في نيجيريا بين يناير2020 وسبتمبر الماضي. ومن بين هؤلاء الضحايا، نسبت 317 حالة إلى هجمات استهدفت المسيحيين، بينما تم الإبلاغ عن 417 حالة استهدفت المسلمين. وأوضح المحلل الأمني نامدي أوباسي، وهو مستشار كبير في مركز أبحاث مجموعة الأزمات الدولية، لـ"سي أن أن" أنه "في حين أن الجماعات المتطرفة تسببت في إحداث فوضى ضد كل من المسيحيين والمسلمين في شمال شرق نيجيريا، فإن جماعات قطاع الطرق أرهبت المجتمعات ذات الأغلبية المسلمة في الشمال الغربي. وبالإضافة إلى ذلك، عانت المجتمعات الزراعية ذات الأغلبية المسيحية في أجزاء من المنطقة الشمالية الوسطى من العنف المستمر من الجماعات المسلحة". وأكد أنه "مع ذلك في معظم أنحاء البلاد، يعيش المسيحيون والمسلمون بسلام مع بعضهم البعض".

ويتجاوز عدد سكان نيجيريا 232 مليون نسمة وبها حوالي 250 مجموعة عرقية، وهي منقسمة بين الشمال ذي الأغلبية المسلمة والجنوب ذي الأغلبية المسيحية. وتعرض السكان، من الديانتين، لمجازر ارتكبتها مجموعات مثل بوكو حرام وتنظيم داعش - ولاية غرب أفريقيا. في وسط نيجيريا، يشتبك الرعاة ومعظمهم من المسلمين والمزارعين المسيحيين بشكل رئيسي في كثير من الأحيان بسبب الوصول إلى المياه والمراعي. وفي الشمال الغربي، يهاجم المسلحون القرى بشكل روتيني ويختطفون السكان للحصول على فدى.