العدد 1555 /21-3-2023

أرنست خوري

إنه موسم توزيع المسؤوليات عن الخراب في بلدان عربية. وللتراشق بالتهم في العراق وسورية شهرة يندر أن توجد في مكان آخر. للبلدين تاريخان مفصليان متجاوران في الأيام، لكن ثماني سنوات تفصل بينهما. عراقياً، الاجتياح الأميركي الذي بدأ في 20 مارس/ آذار 2003، وسورياً الثورة الشعبية التي انطلقت بين 15 و18 مارس/ آذار 2011. يجمع ما بين الحدثين نوع النظامين والرغبة الجامحة بإسقاطهما، باجتياح أميركي ــ بريطاني أو بإمكانات محلية غير متوفرة. لكن ما يقرّب بين الحالتين نوع السجالات التي تجترّ نفسها سنوياً في مثل هذه الأيام منذ 20 عاماً في العراق، ومنذ 12 سنة سورياً. سجالات تستحضر، في أحيان كثيرة، كل تعقيدات اللغة والمنطق، لتبرئة المجرم الحقيقي الذي تسبّب بهذا الخراب الكبير، ونسْبِ كل الجرم لأميركا التي يكرهها كارهون، ظالمةً كانت أو مظلومة، ولـ"الشعب" الذي يخبرنا كتّاب البلادة والتخلف أنه خرّب بلده حين سعى إلى التحرّر.

بعد مرور 20 عاماً على الحدث الكبير، ينسى كثيرون ويتناسى آخرون أن إطاحة صدّام حسين ونظامه الدموي في العراق ما كان يمكن أن تتحقق من دون تدخل عسكري أجنبي، وأن الجريمة الأميركية الحقيقية كانت تسليم العراق إلى إيران بعد اجتياحه، وحلّ الجيش العراقي بغباء أو خبث، لا إسقاط النظام بحد ذاته. أخطاء أميركية أخرى ارتُكبت وأكاذيب سيقت، لكنّ رواية أن إسقاط نظام صدّام كان يجدر أن يتم بأيادٍ عراقية، تنمّ في أغلب الظن عن جهل باستحالة حصول ذلك، بدليل دروس الثورة السورية. وإن لم يكن كلامٌ كهذا ناتجاً عن جهل بالظروف الموضوعية، فإنه على الأرجح يعبّر ضمنياً عن تمنّي بقاء نظام صدّام حسين.

بعد مرور عشرين عاماً، يجدر التذكير بأن الحالة الانفصالية الكردية في العراق لم تخترعها أميركا، بل يتحمل مسؤوليتها تاريخ عربي قمعي طويل مع الأقليات غير العربية. بعد عشرين عاماً على الحدث الكبير، لا ينفع التعامي عن أن إرهاب نظام صدّام حسين، كإرهاب آل الأسد في سورية، أدّيا إلى تصحّر شامل في المجتمعين العراقي والسوري، جعل من المستحيل تغيير الأنظمة إلا بتدخّل عسكري أجنبي. وعندما يحصل تدخّل من هذا النوع، ينفرط عقد المؤسسات، وتنتعش الحالات الدينية المتشدّدة التي خلقها النظامان وتركاها لوقت الحاجة، لكي تكون الترجمة حرفيةً لشعارات "الأسد أو نحرق البلد"، و"صدّام أو ماكو بلد"، ولو أنّ القافية مكسورة في الحالة العراقية. في تلك الحالة، يخيّرنا المتحسّرون على نظام صدّام بين مصيبتين: بقاء الكابوس البعثي أو أن يصبح العراق ساحة لملالي إيران يسرقونها ويحكمونها ويفسدونها. معادلة صفرية مشابهة أكثر تعقيداً ستُطرح في سورية لاحقاً، الثابت فيها بقاء بشار الأسد بنسخة ما قبل ثورة 2011، أو تحميل المطالبين بالحرية مسؤولية تهجير تسعة ملايين سوري وزوال البلد وتحوّله إلى مناطق حكم إيرانية ــ روسية ــ تركية ــ أميركية ــ إسرائيلية. الحرب الطائفية في العراق بعد الغزو لم تكن اختراعاً أميركياً، بل بذرة محلية جداً روتها ونمّتها لاحقاً طهران. انسحب الأميركيون منذ 2011 من العراق، فكيف أصبحت أحواله بعد 12 عاماً من "الاستقلال"؟ الفساد الذي يصعب وصف مستوياته عند المسؤولين العراقيين وفي كل حلقات المجتمع؛ هل لا يزال إنتاجاً أميركياً، أم ترجمة يومية لكيف تكون الوصاية الإيرانية في البلدان العربية؟ العراق، صاحب أكبر احتياطي نفطي في العالم (حسب إعلان وزارة النفط العراقية في فبراير/ شباط 2020)، ثلث سكانه يعيشون في الفقر، فهل الحقّ على الأميركيين في هذا أيضاً، أو على العراقيين أنفسهم وحكام النظام الإيراني الذين لا يُعيَّن حاجب في بلاد الرافدين منذ 12 عاماً من دون نيل موافقتهم؟

حرب 2003 خلطة من الآثام، ليس من بينها إسقاط نظام صدّام حسين. المشكلة تكمن في مَن انتظر من الأميركيين أن يبنوا للعراقيين بلداً يستحقونه، على أطلال مزرعة الاضطهاد والمعتقلات والتعذيب والقتل.