العدد 1337 / 14-11-2018

بقلم : أسامة أبو ارشيد

إذا ما أردنا تقديم تقويمٍ عامٍ لانتخابات التجديد النصفي في الولايات المتحدة الأميركية، يمكن القول إن الديمقراطيين حققوا نصف انتصار، في حين مُنِيَ الجمهوريون بنصف هزيمة. ولكن، بالغوض أكثر في التفاصيل، فإن المشهد يكون أكثر تعقيداً، بشكلٍ يصعب فيه الجزم بتفاعلات العامين المقبلين، أي حتى العام 2020، حيث ستجري الانتخابات الرئاسية، والتجديد مرة أخرى لمجلس النواب بأكمله، وثلث مجلس الشيوخ تقريباً، بالإضافة إلى انتخاباتٍ في ثلاث عشرة ولاية وأقاليم تابعة للولايات المتحدة.

في الإطار العام، تمكّن الديمقراطيون من كسر احتكار الجمهوريين أفرع الحكومة الفدرالية، بعد فوزهم بأغلبية مقاعد مجلس النواب، غير أن الجمهوريين تمكّنوا من الحفاظ على مجلس الشيوخ، بل وعزّزوا أغلبيتهم البسيطة فيه. هذا يعني أن الكونغرس سيكون منقسماً الآن، وهو ما سيؤدي إلى تفعيلٍ أفضل لآلية "الضبط والتوازنات" التي يقوم عليها النظام السياسي الأميركي، فالديمقراطيون سيمارسون دوراً رقابياً أكبر، وأكثر فاعلية، على إدارة الرئيس دونالد ترامب. والمرجح أن الديمقراطيين الذين سيرأسون لجان مجلس النواب لن يدّخروا جهداً في المضي بالتحقيق في السجل الضريبي لترامب، وتضارب المصالح المحتمل بين موقعه رئيسا للولايات المتحدة وأعماله التجارية الخاصة. والأهم من هذا وذاك استكمال التحقيق في مزاعم التواطؤ المحتمل بين حملته الانتخابية عام 2016 وروسيا، وهي أمور عملت الأغلبية الجمهورية على تعطيلها.

وأيضاً، مؤكد أن الأغلبية الديمقراطية في مجلس النواب ستعيق كثيراً من أجندة ترامب الداخلية، وتحديداً المتعلقة ببناء جدار مع المكسيك، وسياسات الهجرة المتشدّدة التي يتبعها، فضلاً عن محاولته إلغاء برنامج الرعاية الصحية الذي أقرّته إدارة سلفه، باراك أوباما. وعلى المستوى الولائي، تمكّن الديمقراطيون من استعادة ولاياتٍ محسوبةٍ عليهم، كانوا قد خسروها من قبل لصالح الجمهوريين، بل وصوّت بعضها لصالح ترامب، كما ميشيغن وويسكونسين، وهو الأمر الذي سيعزّز موقف الديمقراطيين في رسم الدوائر الانتخابية لعام 2020 التي تفرّد الجمهوريون بكثير منها في الأعوام الماضية.

لكن إنجازات الديمقراطيين المشار إليها هي نصف المشهد، وتمثل نصف انتصار، ذلك أن نجاح الجمهوريين في الحفاظ على أغلبيتهم في مجلس الشيوخ ستعني بقاء قدرة ترامب على تعيين مزيد من القضاة الفدراليين وقضاة المحكمة العليا المحافظين. دع عنك، طبعاً، تعزيز قدرة ترامب على المناورة بشكل أكثر أريحيةً في السياسة الخارجية، وهي التي يتمتع فيها بصلاحيات واسعة أصلاً، مقارنة مع صلاحياته في السياسة الداخلية. كما أن فشل الديمقراطيين في انتزاع ولايات مركزية، كفلوريدا وأوهايو، تضع آمالهم باستعادة الرئاسة عام 2020 محلَّ تساؤل كبير.

في المقابل، ليس الجمهوريون أحسن حالاً من الديمقراطيين، فمشكلتهم أكبر من مجرّد خسارة مجلس النواب وبضع ولايات. وتتعلق مشكلة الحزب الجمهوري الكبرى بمستقبله وببقائه أحد الحزبين الرئيسيين اللذيْن يحكمان الولايات المتحدة منذ أكثر من قرن ونصف. وتكفي الإشارة هنا إلى أن الحزب الجمهوري خسر الأصوات الشعبية في ستة من آخر سبعة انتخابات رئاسية، ولو لم يكن النظام الانتخابي الرئاسي الأميركي قائما على أصوات "المجمع الانتخابي" لكان بالكاد نجح مرشح جمهوري. مردُّ ذلك إلى أن المعادلة الديموغرافية في الولايات المتحدة تعرف تغييراً كبيراً، فالبيض من أصول أوروبية يخسرون أغلبيتهم بشكل متسارع، في حين يتحول الحزب الجمهوري، بشكل مضطرد، إلى حزب يمينيٍّ ممثل للرجال البيض من كبار السنِّ، وتحديدا في الأرياف والجنوب، من الناقمين على التغيرات الديمغرافية والرافضين لها. وقد أكدت الانتخابات أخيرا هذه الحقائق.

الأهم من ذلك هو ما أوضحته معطيات الانتخابات الأخيرة. أولاً، الحزب الجمهوري يتحول تدريجياً إلى حزب الأرياف، الأقل سكاناً، والأقل تعليماً وثراءً، حيث أيده 56% منهم مقابل 39% لصالح الديمقراطيين. أما في المناطق الحضرية، الأكثر سكاناً، والأكثر تعليماً وثراءً، فإن الصورة تنعكس، حيث حصل الديمقراطيون على دعم 52% مقابل 43% للجمهوريين, وتظهر الأرقام أن النساء صوّتن بنسبة 56% للديمقراطيين مقابل 38% للجمهوريين. في حين صوت الرجال بنسبة 49% لصالح لجمهوريين مقابل 46% للديمقراطيين. وفاز الديمقراطيون في أوساط الشباب، حيث حصلوا على 61% من الناخبين الذين أعمارهم بين 18 و29 سنة. كما فازوا بأصوات الناخبين الذين تتراوح أعمارهم بين 30 عاما إلى 44، وكذلك الذين تتراوح أعمارهم بين 45 و64 عامًا. وتشكل تلك الفئات، مجتمعةً، التي صوتت للديمقراطيين ما يقرب من ثلاثة أرباع الناخبين. وتظهر الاستطلاعات أن الجمهوريين ظفروا فقط بأصوات الناخبين في سن 65 فما فوق بنقطة مئوية واحدة، 49% إلى 48% .

باختصار، لم تعد الانتخابات الأميركية مجرد انتخابات برامجية على أسس اقتصادية وسياسية، بل تحولت إلى انتخابات فلسفية بشأن ماهية أميركا نفسها. قد يجد الديمقراطيون والجمهوريون طريقة ما للعمل معاً في الكونغرس حتى العام 2020، ولكن من غير المرجّح أن تلتقي رؤيتان وفلسفتان متناقضتان، واحدة تعترف بالتنوّع، ولو من باب التوظيف المصلحي والانتخابي، والأخرى، تريد الارتكاس في التاريخ إلى زمنٍ غابر كان يُنَظَّرُ فيه للنقاء العرقي.