العدد 1361 / 8-5-2019

جمال محمد إبراهيم

(1)

معروفٌ عن السودان انتماؤه الأفريقي والعربي والإسلامي، إذ أبقته جغرافيته، وتاريخه أيضاً، كياناً وسطاً، فأسبغت تلك الوسطية لونها الغالب على دبلوماسيته.

أفلحت دبلوماسية السودان، بتكليف من جامعة الدول العربية، أوائل ستينات القرن الماضي، في احتواء النزاع الحدودي بين العراق والكويت، في لحظة نيل دولة الكويت استقلالها عام 1961. أما على الساحة الأفريقية، فقد كان للسودان، على الرغم من جراحاته الداخلية، دوره المؤثر في بعض أزمات القارّة. لعب دوراً إيجابياً في أحداث الكونغو، وهذه المرّة أيضاً بتكليف أممي. في خضم تلك الأحداث، لقي الأمين العام للأمم المتحدة، داغ همرشولد، مصيره المأساوي في أحراج الكونغو. أما أكثر تجليات ديبلوماسية السودان على الساحة العربية، فقد تمثلتْ في استضافته أشهر قمة عربية في الخرطوم، والجرح العربي ينزف إثر حرب حزيران عام 1967.

(2)

تُرى كيف فات على نظام عمر البشير أن يرى رصيد بلاده في دبلوماسيتها الوسطية، فإذا هو يجنح في عام 1990 لتأييد دولة عربية هي العراق، في غزوها دولة عربية شقيقة هي الكويت، فلا تحفظ ذاكرة نظامه أن دبلوماسية بلاده هي التي أطفأت، قبل ثلاثين عاماً، فتيل الأزمة الحدودية بين الكويت والعراق؟ بل أن الزهايمر السياسي الذي أصاب السودان، في ظل نظام البشير ، قد أنساه أن عاصمة بلاده الخرطوم، هي التي أطفأت، عام 1967، حرائق حرب اليمن التي تورّطت فيها مصر في خلافها مع السعودية، ضاعت من مخيلة المواطن اليمني، إلى الأبد، صورة السوداني المُعلِّم صاحب القلم في معاهد اليمن ومدارسه، وحلّت صورة أخرى كالحة المعالم، لسوداني أجير وأشبه بالمرتزق، يقاتل ويفتك بإخوانه اليمنيين. لربما كانت للبشير ناقة في تلك الحرب أو بعير، إلا أن الرئيس لا يرى دماء أبناء وطنه تسيل في وديان اليمن وجباله، بأبخس ثمن.

(3)

في اجتراره أيام "لاءات الخرطوم" الشهيرة في عام النكسة، وفي تذكّر تلك القمة في الخرطوم، التي ضمدت جراحات الهزيمة الفادحة، فإنّ التاريخ يُخبر أيضاً أنها حدّثت عن مبادرة دبلوماسية فاعلة في إطار انتماء السودان المتفرّد، فأصلحت بين مصر (جمال عبد الناصر) والسعودية (الملك فيصل). لماذا يدهشنا وجود لقب "السوداني" يحمله مسؤولون كبار في العراق كما في تونس؟ ولماذا في خريطة غزّة حيّ سكنيّ باذخ، اسمه حي السودانية؟ للسودان مكانته في الوجدان العربي.

(4)

في ظاهر الصورة بلدان شقيقة، هبّت لنجدة شعب السودان، بعد أن اسودّتْ أيامه. وللسودان أن يحمد لأشقائه في المشرق حسن صنيعهم. "وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة"، ذلك ما جاء في كتاب الله سبحانه وتعالى، غير أن للضمائر السياسية ما تخفيه، وللمصالح غلبة على مشاعر التعاطف المحض. من ينظر في العمق سيرى أن الخير قد يتلوّن بسيماء المطامع، وأن خلوص النيات قد يلتبس بملاحقة المنافع، وأن روح التشارك قد تخالطها نوازع الأنانية وقصر النظر. لن يبقى عليك، بمقتضى الحال، إلا أن تستعصم بمبادئك وقيمك وحرصك على مصالحك. ليت الأشقاء يراعون مكانة السودان في الوجدان العربي، وأن بقاءه في مكانه الوسطي رصيد له ولهم.

(5)

تغلب على لغتي ما تشرّبتُ من مهنتي الدبلوماسية من أساليب، فإنّ كلامي، على الرغم من ذلك، لا يقفز إلى المطاعنة، كالتي فعلها بروتوس مع قيصره، ولكنه لا يقف بعيداً عن تبيان الحقائق، وجلاء المناصحة. يعيش السودان أياماً يؤرَّخ لها، إذ هو يستعيد فيها عزّةً مضاعةً وكرامةً مستباحة، وحريات مغيبة. تحققت بحراك شبابه الثائر، وباصطفافه النبيل، ثورة تجاوزت سقطات نظام الإنقاذ وفشله الذريع. السودان الذي لم يعرف مناخه مواسم ربيع صنع لنفسه ربيعاً سياسيا متفرّداً. هتف ثواره أن احتجاجاتهم ليست من أجل الخبز أو الوقود، بل لاستعادة الحرية والعزة والعدالة والكرامة. سيصل ذلك الهتاف إلى دوائر انتماء السودان، داوياً ولكنه لن يكون داميا. ثورة السودان خلتْ من نوازع التشفّي والانتقام، وذلك أنبل مقاصدها، ولن يكون مصير البشير المخلوع، كمصير من سبقوه من الحكام، حيث ميزان العدالة في انتظاره.