عصام شعبان

شعور عام بالخوف يلف المجتمع المصري، بما فيه النظام. لم تكن مشاهد الانتخابات الرئاسية أخيرا سوى نموذج، حاولت السلطة فيه تجاوز الخوف من توقعاتٍ بخفوت المشاركة، فاستعدت بأكبر قدر ممكن من الدعاية، والحشد، في محاولةٍ لتجاوز الرفض المكبوت لدى الناس تجاه السلطة، وسقطت نتيجة ذلك رمزية العملية الانتخابية، واستمر قطار العصف بالحريات ورقابة وسائل الإعلام، ومعاقبة بعضها علناً، مثل صحيفة المصري اليوم وموقع مصر العربية، ومنع بعضهم من الكتابة، وقبض على صحافيين. ويمكن من مشهد الانتخابات الرئاسية الماضية، تحليل ظاهرة الخوف، وكونها أيضاً آلية للتحكم وإدارة المجتمع وضبطه. 
الانتخابات عنفاً معنوياً مكثفاً 
بحكم تقديرات كمية ومشاهدات ميدانية، كانت نسبة المشاركة في الانتخابات الرئاسية ضعيفة، على الرغم من كل ما بذل من جهود وأساليب، منها استخدام عنف معنوي مكثف، كالترهيب من المستقبل، والتهديد بتغريم المقاطعين مبالغ مالية، أو ترويج إشاعات بمعاقبتهم اقتصادياً، مثل منع صرف الدعم المصروف بموجب بطاقات التموين. تستطيع الدولة، بعنفها المادي، منع التظاهر والمؤتمرات، واعتقال المواطنين، لكن كل هذه الأساليب لا نتيجة لها بالمشاركة في الانتخابات، بل على العكس، كلها أسباب تدعو إلى الكفر بالنظام السياسي وآلياته الانتخابية ومقاطعتها. 
وقد استخدم الخوف في الانتخابات سلاحاً لانتزاع قبول شكلي لا يحظى بتراضٍ، أو إذعان إن شئت توصيفاً أدق، بحكم أنه يحمل معنى الانقياد والخضوع. 
يمكنك أن تحلل سريعاً نسب المصوتين، حسب الأرقام الرسمية للجنة الوطنية للانتخابات، لتكتشف أن الأصوات الباطلة زادت على مليون صوت، وهي نسبة كبيرة بالنسبة إلى الأرقام الرسمية، ما يؤشر على أن تلك الأصوات إما نتاج رفض، أو أن أصحابها أُرغموا على المشاركة بدوافع الخوف، فأبطلوا أصواتهم. 
الخوف والجسد السياسي 
بمقاربة إنثروبولوجية، الخوف علامة ظاهرة على الجسد السياسي للمجتمع، وأحد مصادره ما تبثه المؤسسات الرسمية للمواطنين، والخوف كشعور مستهدف تريد السلطة عودته، لأن ثورة يناير ساهمت في تكسيره، وتحرير المواطنين منه، وهو الذي كان أسلوب حياة، مقيد لحرية حركة الأفراد، والمجتمع، بل يقيد الخوف نمط التفكير. وإذ كان النظام يستطيع إحكام سيطرته على جسد المجتمع وأفراده بالسجن أو الحصار، فإنه يقيدهم داخل خوفهم أحيانا أخرى، لأنه بالخوف تتعطل إرادة الناس واختياراتهم الحرة، ويصبحون في وضعية إذعانٍ وخضوع أكثر ربما من أجساد السجناء خلف القضبان. 
يتجسّد الخوف ويظهر في وسائل الإعلام، خصوصاً في مناسبات أو أحداث كالانتخابات. ولا يكتفي رؤساء تحرير صحف تحاول الحفاظ على مساحة من الاستقلالية عن السلطة والموضوعية، والقائمون عليها، وأصحابها، بوضع ضوابط ذاتية، تعفيهم عن مسألة الرقيب الأمني، أو معاتبة مسؤول هنا وهناك، أو تهديد هيئات، مثل مجلس النواب. يعترف أغلب الصحافيين في مواقع التنفيذ والإدارة بأنهم أصبحوا يضعون أنفسهم تحت رقابة ذاتية، فمؤسساتهم لا تكتفي برقابة السلطة، وتخشى بطشها لدرجة أنها تذهب إلى الرقابة الذاتية، موقفاً بديلاً من التدخل في سياسة التحرير. بجانب ذلك، يوجد مندوب أو أكثر لكل جهة أمنية في كل صحيفة، لا يخجل بعضهم من أن يعلن، إلى جانب مهنته صحافياً، أنه يتبع الجهة الفلانية. لم يعد اليوم محموداً أن تنشر الصحف أخبار المظلومين، المحتجين، وترفع مطالبهم، بدأت تتوارى أخبار الاحتجاج الاجتماعي من الصحف، وأصبحت هناك قوائم طويلة، لا تستضيفها وسائل الإعلام، ولا تتحدث عنها الصحف. نلجأ إلى الذكرى اليوم، عن الحركة الاجتماعية، على الرغم من سقف الحركة والحريات المحدود أيامها تحت حكم حسني مبارك، لكي نتحصّن بها، لأن الذكرى وتجارب الشباب من أجل التغيير، أصبحت ملجأ للمحبطين، وتذكرة بالنصر للمهزومين، ومقاومةً بالأمل للمحبطين. 
من أدوات الإنتاج إلى الأرباح 
جوانب عدة للخوف، ومظاهر متنوعة نتاج الرقابة السلطوية، والرقابة الذاتية، رقابة لمجمل التفاعلات الاجتماعية في المجتمع، حوارات المقاهي، الشوارع الجانبية، دردشة الأصدقاء في جلساتهم الأسبوعية، وسهرات يوم الخميس، في نادٍ أو مقهى، أو تجمعات الأصدقاء بعد انتهاء الصلاة، تجمعات الموالد، والمناسبات، ومباريات كرة القدم، وما بقي من حركة طلاب الجامعات وأنشطتهم، والحركات النقابية، والشبابية والحزبية، وحتى مجموعات النقاش على «فيسبوك». 
اشتدت قبضة الأمن على الصحف بشدة، وقت إجراء انتخابات الرئاسة. لم يكتف جنرال الصحافة، مكرم محمد أحمد، بتصريحاته وألفاظه التي لا تليق بمن في سنّه، ولا تاريخه الصحافي والنقابي، بل عمد، في ختام عمره إلى مزيد من التنازلات، ليمثل أداة بطش وعقاب لكل من يناقش أو ينتقد السلطة، أو حتى ينقل الحقائق. حوّل مكرم، عبر مجلسه العقابي والرقابي المسمى «المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام»، رئيس تحرير صحيفة «المصري اليوم»، محمد السيد صالح، إلى التحقيق معه نقابياً، بينما غرّم الجريدة 150 ألف جنيه، بسبب مانشيت «الدولة تحشد»، وهو أمر في غاية الغرابة، فالعنوان عادي جداً، لم يات بجديد، ولم يمثل سوى الحقيقة التي يعرفها الجميع، لكن الدولة ومؤسساتها اعتبرته تهمةً تستحق العقاب، من منطلق أن قول الحقائق في مصر يستدعي العقاب. وفى السياق نفسه، تأتي واقعتان: الأولى، هجوم بعض أنصار أجهزة الأمن على رئيس تحرير صحيفة الشروق، عماد الدين حسين، التي يصنفونها صحيفةً مناوئة للدولة، تضم أصوات متعاطفين مع «الإخوان المسلمين». وتعتبر دوائر من دراويش عبد الفتاح السيسي «الشروق» صحيفة «إخوانية»، على الرغم مما تلقاه عماد حسين من هجوم من الدوائر نفسها التي تدّعي أصوات الاستبداد أنه يصطف معها. كذلك شهدت صحيفتا «المصري اليوم» و«الشروق» حالات منع مقالاتٍ نتاج الجو العام، وما يتضمنه من ضغوط شديدة تمارسها السلطة، ودوائر اقتصادية، تتحكّم في عالم الصحافة والنشر، وتحافظ على مصالحه. فقد منعت، مثلاً، مقالات لحسام السكري، ومحمد الأمين. ومنعت مقالات عبد الناصر سلامة في «المصري اليوم»، وغيرهم من الكتاب الذين منعوا من الكتابة في صحف أخرى. ولذلك، أن تتولى رئاسة تحرير صحيفة مصرية في هذا التوقيت مهمة صعبة وثقيلة. الواقعة الثانية، استمرار القبض على شباب صحافيين، من مؤسسات صحافية رسمية، أو لهم منصات شخصية، فقد تم أخيراً القبض على محمد إبراهيم رضوان الشهير بأوكسجين، وهو مصور صحافي حر سجلت كاميرته لقاءاتٍ مع عدة شخصيات مصرية معارضة، منهم الكاتب الاقتصادي عبد الخالق فاروق، ومعصوم مرزوق. ولكليهما مواقف حادة ضد ممارسات النظام على مستويات متعددة، أبرزها السياسات الاقتصادية والسياسة الخارجية والاستبداد، وكلاهما عضو في الحركة المدنية الديمقراطية. وفي السياق، تم القبض على رئيس تحرير موقع مصر العربية، ورئيس تحرير صحيفة الوفد سابقاً، عادل صبري، بتهمة نشر تقارير إخبارية كاذبة عن الانتخابات الرئاسية. 
الخوف مقاربة اقتصادية 
يمكن القول إن شعور الخوف يسيطر على المجتمع المصري ككل، أفراداً ومؤسسات مدنية وسلطة. وبمقاربة اقتصادية، تحافظ السلطة على رأسمال الخوف، وتدعم أدوات إنتاجه، من  قمع وحصار وحجب، وتنتجه ليعود مرة أخرى يغرق المجال العام. ينتج الخوف لكي يستهلكه الجمهور ويعتاش عليه، ويعود مرة أخرى حاضراً، بعد أن كانت قد فرقته ثورة يناير في عام 2011 عن المجال العام فترة قصيرة. للخوف أيضاً أدوات مؤسسة منتجة له، ليس القمع الخشن الأمني وحده المتصدر، ولكن هناك ضرورة للدعاية باعتبارها إحدى وظائف الدولة في النظم السلطوية التي يتحكم فيها الفرد ومجموعات المصالح المتحلقة حوله. 
ومصادر الخوف الذي يسود المجال العام في مصر متنوعة، من وسائل إعلام خاص وعام، تحاول استبدال الحقائق بصور مصنوعة، تحجب وتمنع، وتحاصر كل صوت أو وسيلة تنقل الحقائق كما هي. الكذب مع الخوف هنا غرضهما تزييف الوعي، وأن يسود الإذعان وشعور الخوف والإرهاب النفسي المجتمع. مطلوب أن يعود المصريون، وخصوصاً العاملين والمهتمين بالمجال العام والمرتبطين به، إلى مربع الخوف من المستقبل، وبطش أيادي السلطة، الخوف من التعبير والحركة. ويستخدم الإكراه في مواقف متعددة تحت وقع الخوف، ويصنع الكذب حين يتم إخفاء جزء من الحقائق، وإظهار جانب آخر من خلال وسائل الإعلام.}