أنور الجمعاوي

بعد سبع سنوات من الانتظار والتأجيل، والترقّب والتسويف والمماطلة، نظّمت تونس أوّل انتخابات بلديّة بعد الثورة، وخطت خطوة عمليّة مهمّة على درب استكمال مسار الانتقال السياسي، وبلورة معالم الحكم المحلّي. وجرى الاستحقاق الانتخابي في كنف السلاسة والنزاهة والأمان، ومثّل نقطة ارتكاز لتكريس اللامركزيّة، وتوسيع مشاركة المواطن في إدارة الشأن العامّ. وقد مثل تنظيم الانتخابات مثّل تحدّياً حقيقياً، ومنجزاً وطنيّاً ترقّبه معظم التونسيين من زمن بعيد، إذ تأجّل هذا الاستحقاق مرّات، واحتجّ المعترضون على قيامه بعدم جاهزية الأحزاب والهيئة المستقلّة للانتخابات حيناً، وبعدم استتباب الأمن حيناً آخر. ونتج من ذلك تكلّس الهياكل التقليديّة للبلديات، وتعطيل مصالح المواطنين، وتدهور خدمات القُرْب المسداة إليهم. لذلك، كان تنظيم الانتخابات المحلّية حاجةً مدنيةً حيويّة، وتحوّلاً نوعيّاً في مسار مأسسة التجربة التونسيّة. وحمل الحدث الانتخابي الجديد طيّه عدّة رسائل دالّة، أهمّها تثبيت الديمقراطية، وتشكّل مشهد سياسي متنوّع، وتزايد القلق بشأن ظاهرة العزوف الانتخابي.
عمليّاً، مثّلت الانتخابات المحلّية تمريناً جديداً على ممارسة الديمقراطية في الداخل التونسي، فاحتكم آلاف المترشحين إلى صناديق الاقتراع، وتنافسوا بطريقة سلميّة على الفوز بمقاعد المجالس البلدية، وتواصلوا مع النّاس في مختلف أنحاء البلاد، وعرضوا عليهم برامجهم وخططهم لتحقيق التنمية المحلّية. واللافت، في هذا السياق، أنّ الاستحقاق الانتخابي تميّز بحضور مكثّف للمرأة والشباب، في مستوى تركيبة القوائم المترشّحة على نحوٍ سمح بدمج النساء في دورة قيادة المحلّيات، وسمح بضخّ دماء شبابية جديدة في هياكل القرار. يضاف إلى ذلك حضور ذوي الاحتياجات الخاصّة في قوائم المترشّحين (1400 شخص)، وتعميم البلديّات على جميع مناطق البلاد الداخلية والطرفية والريفية، وهي سابقةٌ في تاريخ تونس الحديث. ويُسهم ذلك في ترسيخ اللامركزيّة، ورفد الديمقراطية التمثيلية بديمقراطية تشاركية، لا تستثني أحداً، بل تفتح الباب واسعاً لجموع المواطنين، للمساهمة في صناعة القرار وإدارة الشأن العامّ.
على المستوى السياسي، أفرزت صناديق الاقتراع مشهداً تعدّدياً كرّس التنوّع، وقطع مع القطبية الثنائية التقليديّة بين حركة النهضة وحركة نداء تونس، فعلى الرغم من تصدّر الحزبين الطليعة، وفوزهما بقدر معتبر من الأصوات (حركة النهضة: 28%، نداء تونس: 22%) فإنّهما لم يحتكرا المشهد. بل ظهرت على السّاحة قُوى حزبية ومدنية وازنة جديدة، فقد صنع حزب التيّار الديمقراطي المفاجأة، على الرغم من حداثة تأسيسه، وحصل على مراتب متقدّمة في معظم البلديّات التي شارك في التنافس عليها (58 بلديّة). والمرجّح أنّ الحزب شكّل قاعدته الانتخابية أساساً من الغاضبين من سياسات الحكومات المتعاقبة بعد الثورة، ومن المستائين من تمرير قانون المصالحة الاقتصاديّة، ومن تعطيل العدالة الانتقالية.
وحافظت الجبهة الشعبية، ذات المرجعية اليسارية المعارضة، على حضورها المعتبر في المشهد، على الرغم من محدودية عدد قوائمها المشاركة في التنافس على البلديّات (120 قائمة)، وبدا لافتاًً للنظر الصعود غير المسبوق للقوائم المستقلّة التي فازت بنسبة 32% من أصوات الناخبين، واستفادت من سخط النّاس على الطبقة السياسية الحاكمة والمعارضة، وقدّمت نفسها بديلاً من الأحزاب والمتحزّبين، واستثمرت خصوصاً في العلاقات المهنية والعائلية، ووشائج القرابة والجوار والزمالة لتستقطب أكبر عدد ممكن من الناخبين المحلّيين. وعلى الرغم من أهمّية الاختراق الذي حقّقه المستقلّون، فإنّهم يظلّون كياناً هلامياً، غير واضح المعالم، باعتبارهم لا يتوفّرون على هويّةٍ برامجيةٍ واحدة، ولا على خلفيّة أيديولوجيّة جامعة، ولا على كتلة انتخابيّة ثابتة موحّدة، بل هم موزّعون في غير تنسيق بينهم على البلديّات، ويحتاجون بالضرورة إلى بلورة توافقاتٍ مع الأحزاب، ليكون لهم دور فاعل في المجالس المحلّية المقبلة.
أمّا حالة العزوف عن ممارسة حقّ الانتخاب، فتبقى مبعث قلق لدى المراقبين وعموم الفاعلين   في المشهد السياسي في تونس، ذلك أنّ نسبة المشاركة في التصويت لم تتجاوز حدود 34% من مجموع النّاخبين المسجّلين. وليست المقاطعة هنا فعلاً اعتباطيّاً، بل رسالة احتجاجيّة دالّة، تعبّر عن استياء قطاع كبير من المواطنين عموماً، والشباب خصوصاً، من الطبقة السياسية بمختلف أطيافها، فشيوع خطاب الكراهية، والإقصاء والإقصاء المضادّ، وانتشار الزبونية والسياحة الحزبيّة، وعقليّة الغنيمة والمحاصصة، وادّعاء امتلاك الحقيقة، وتقديم الوعود الكاذبة إلى الناخبين، ساهم ذلك كله في تشويه السياسة والسياسيين، وأدّى إلى نفور النّاس من الأحزاب ومن المشاركة في الاستحقاقات الانتخابية. يُضاف إلى ذلك أنّ وقوف المواطنين على ارتفاع الأسعار، وانزلاق الدينار، وغلاء المعيشة وتفاقم الفقر والبطالة، جعلهم يشعرون بالإحباط، ويذهبون إلى أنّ الديمقراطيّة لم يكن لها عائد مادّي - تنموي، ولم تغيّر حياتهم نحو الأفضل.
يمكن القول ختاماً إنّ تونس، بتنظيمها الانتخابات البلديّة، وضعت لبنة جديدة في بناء الحوكمة المحلّية، وتكريس اللامركزيّة والديمقراطيّة التشاركيّة. والحاجة الآن أكيدةٌ إلى التسريع في تفعيل مجلّة الجماعات المحلّية، وتنصيب المشرفين على المجالس البلدية، لتطوير خدمات القُرْب المسداة إلى المواطنين، وتلبية حاجياتهم المباشرة: الإنارة، النظافة، حماية البيئة، الصرف الصحّي، البنية التحتية... بشكل يجعلهم يُدركون قيمة الفعل الانتخابي وثمراته النّافعة، ودوره في تغيير حياتهم ومحيطهم نحو الأفضل. ولا شكّ في أنّ رفد الإصلاح السياسي بانتقال اقتصادي أمر ضروري، لأنّ الديمقراطيّة إذا ظلّت فقيرة ظلّت عرجاء، مبتورة لا محالة.}