في مسيرتها الصعبة والطويلة، اضطلعت حركة «فتح» بمكانة القائد والمقرر في مختلف المسارات والتحولات السياسية الفلسطينية، إذ أضحت في مركز القيادة بمنظمة التحرير الفلسطينية (الكيان السياسي للشعب الفلسطيني) بعد معركة الكرامة (1968)، أي في مرحلة الكفاح المسلح التي قُطعت جزئياً بعد غزو إسرائيل للبنان، وإخراج منظمة التحرير بأجهزتها وفصائلها منه (1982).
ثم حصل ذلك مرة ثانية في مرحلة التسوية، أي بعد توقيع اتفاق أوسلو (1993)، إذ باتت «فتح» من حينه في مركز القيادة بالمنظمة والسلطة في آن معاً.
إلا أن هذا المسار تم قطعه جزئياً أيضاً إثر صعود حركة «حماس» في المشهد الفلسطيني مع اندلاع الانتفاضة الثانية (2000ـ2004)، وبخاصة إثر فوزها في الانتخابات التشريعية الثانية (2006)، وهيمنتها على السلطة في قطاع غزة (2007)، إذ ظهر من يومها أن ثمة مركزين قياديين فلسطينيين مختلفين ومنقسمين ومتنافسين.
وإضافة إلى ذلك عرفت هذه «فتح» -طوال تجربتها التاريخية- تجارب متعددة ومختلفة، حيث انخرطت في خيارات سياسية وكفاحية متباينة وربما متعارضة، فهي انطلقت من أجل تحرير فلسطين قبل احتلال الضفة والقطاع (حرب 1967)، إلا أنها وصلت بعد عقد على قيامها إلى المطالبة بإقامة دولة فلسطينية في الضفة وغزة، أي في الأراضي التي احتُلّت بعد انطلاقتها.
ثم إن «فتح» انتهت بعد 28 عاماً إلى اتفاق أوسلو الذي وافقت فيه على إقامة كيان فلسطيني في بعض أراضي الضفة وفي القطاع، دون معرفة مآل الحل النهائي المتعلق بحل قضايا اللاجئين والمستوطنات والحدود والقدس، الأمر الذي يدفع الفلسطينيون ثمنه الآن بتغوّل عمليات الاستيطان وتهويد القدس ومصادرة الأراضي، لا سيما مع بناء الجدار الفاصل في الضفة (وقرار الرئيس الأميركي الاعتراف بالقدس كعاصمة موحدة لإسرائيل)، هذا إضافة إلى وضع غزة تحت الحصار منذ 2007.
في ذات السياق أيضاً شهدنا تغيير «فتح» خياراتها النضالية أو وسائلها الكفاحية لتحقيق هدفها من اعتبار الكفاح المسلح الفلسطيني وسيلة لتحريك الجبهات العربية، إلى اعتباره طريقاً رئيسياً أو أساسياً أو إحدى وسائل تحرير فلسطين، بحسب كل مرحلة، وصولاً إلى انتهاج طريق المفاوضات، أو المقاومة الشعبية، بحسب كل مرحلة.
وضمن ذلك اضطرت «فتح» إلى نقل ثقل قوى العمل المسلح الفلسطيني من الخارج، حيث نشأ في الأردن وسوريا ولبنان، ثم انحصر في لبنان وانتقل إلى الأراضي المحتلة، حيث جرى تموضع الأجسام الرئيسية لمجموعات الفدائيين في الأجهزة الأمنية للسلطة إثر إقامتها، علماً بأنها أسهمت في تحول الانتفاضة الثانية إلى مواجهات مسلحة، في سعيها للمزاوجة بين المفاوضة والعمل المسلح.
أما على صعيد البنى السياسية، فقد اندمجت «فتح» مبكّراً في منظمة التحرير إلى درجة التماهي معها ومع الأطر المنبثقة منها، حيث تمكنت عبر قيادة الحركة الوطنية الفلسطينية طوال (1969ـ 1994)، ثم إنها بعد اتفاق أوسلو وإقامة الكيان الفلسطيني حوّلت مركز الثقل إلى السلطة التي أضحت بمثابة المرجعية للمنظمة بدل أن تكون المنظمة هي المرجعية، مع الجمع بين رئاستيْ السلطة والمنظمة.
إخفاقات ومآلات
خلال تلك المسيرة عقدت «فتح» سبعة مؤتمرات، خمسة منها عُقدت خارج الأراضي المحتلة (1965 - 1988)، واثنان منها عقدا في الضفة (2009 - 2016) أي بعد إقامة السلطة؛ هذا أولاً.
ثانياً، إن «فتح» لم تعقد في الفترة من 1988 - 2009 أي مؤتمر لها، ما يعني أنها خلال 21 عاماً لم تناقش ولم تُقرّ في مؤتمراتها أياً من الخيارات التي جرى انتهاجها في تلك الفترة، وهذا ينطبق على اتفاق أوسلو (1993)، وعلى السياسات التي أدت إلى تهميش المنظمة والتماهي بين فتح والسلطة والمنظمة، ولا سيما الجمع بين الرئاسات الثلاث، والإسهام في تحويل الانتفاضة الثانية إلى انتفاضة مسلحة، دون دراسة ولا توافر للمعطيات والإمكانات، إضافة إلى الذهاب إلى انتخابات رئاسية وتشريعية على النحو الذي حصل عاميْ 2006 و2007، مع التداعيات التي أدت إلى تهميش المجلس التشريعي، وحصول الانقسام في الكيان الفلسطيني بين الضفة وغزة وبين فتح وحماس.
يُستنتج من ذلك أن هذه الحركة -رغم كل ما تقدم، ورغم كل التجارب والخيارات، وكل التضحيات والبطولات التي بذلها شعب فلسطين في الداخل والخارج- لم تستطع تحقيق أهدافها ولو على مستوى دحر الاحتلال الإسرائيلي من الضفة وقطاع غزة المحتليْن (1967)، لا بالكفاح المسلح ولا بالكفاح السياسي أي المفاوضة.
أيضاً لم تحافظ هذه الحركة -في خياراتها التفاوضية- ليس فقط على المنظمة ككيان سياسي للشعب الفلسطيني في كافة أماكن وجوده فتعززه وتفعّله، وإنما أيضاً لم تتمكن من إقامة كيان فلسطيني حتى وفق اتفاق أوسلو (1993)، إذ وجدت نفسها في إطار مجرد سلطة ذاتية تخضع لسلطة الاحتلال، مع علاقات تنسيق أمني وتبعية اقتصادية واعتمادية في مجالات البنية التحتية (مع الاعتماد على الخارج في التمويل).
كما وجدت نفسها في منطقة مقطعة الأوصال وغزة محاصرة، علاوة على أنها تورّطت بالانخراط في حل سياسي لجزء من شعب فلسطين على جزء من أرض فلسطين، مع بعض حقوق للفلسطينيين.
وفي المحصلة؛ نتج من كل ذلك تهميش المنظمة وانحسار دور اللاجئين الفلسطينيين في الخارج، الذين كانوا قد لعبوا دوراً كبيراً في احتضان «فتح»، وفي الكفاح المسلح لمصلحة كيان السلطة، ونجم عنه تحول حركة «فتح» إلى سلطة أو إلى حزب للسلطة.
هكذا ضاعت حركة التحرر الوطني الفلسطينية وضاعت المنظمة وضاعت السلطة، وضاعت «فتح» التي لم تستطع التحول لا إلى حزب ولا إلى جبهة فباتت كياناً غير واضح المعالم، ويتكئ في وجوده على السلطة بدل أن تتكئ السلطة عليه وعلى فاعليته وشعبيته.}