العدد 1416 / 10-6-2020

كل ما يجري اليوم في الولايات المتحدة يتعدّى جريمة قتل مواطن أميركي من أصحاب البشرة السوداء على يد شرطي من ذوي البشرة البيضاء. تفجّرت الاحتجاجات المستمرة منذ أكثر من أسبوع، نتيجة تراكماتٍ متشعبةٍ تحضر فيها الجريمة وانتهاكات الشرطة عاملا فجّر الغضب لا أكثر.

منذ وصوله إلى البيت الأبيض، كل ما يفعله دونالد ترامب هو صبّ الزيت على نار الأزمات. في سلوكه، المختَزل في أحيان كثيرة، عبر تغريداته التي يُمطر بها موقع تويتر، الكثير من التشجيع على العنصرية، وزيادة الهوة داخل المجتمع على قاعدة هم ونحن، ليشكل كل ما يقوله عاملاً مغذّياً لكل خطابٍ مستمدٍ من نظريات تفوق العرق الأبيض. عندما غضب من موقف عضوات في الكونغرس هاجمهن لأنهن أتين من بلدان أخرى، ولامهن لأنهن "يتحدثن بصوت عال وبشراسة إلى شعب الولايات المتحدة، أعظم وأقوى دولة على وجه الأرض". ويمكن تتبع عشرات إن لم يكن المئات من المواقف المشابهة التي غالباً ما يختار ترامب إطلاقها في وجه الأقليات، إما أميركيين مهاجرين أو من ذوي البشرة السوداء، وكأن وجودهم في الولايات المتحدة التي ولدوا وعاشوا فيها أمر غير كاف للتساوي في حقوق المواطنة، بما في ذلك حق معارضة الرئيس وسياساته.

يعتقد ترامب، وقد لا يكون مخطئاً، أن هذا السلوك الذي لم يتراجع عنه حتى في لحظة الأزمة الوطنية التي أعقبت مقتل فلويد وتفجر الاحتجاجات وأعمال الشغب، أنه قادر، عبر سلوكه هذا، على شد عصب قاعدته الانتخابية حوله، خصوصاً أنه على بعد أشهر من الانتخابات الرئاسية التي يحل موعدها في تشرين الثاني المقبل على وقع تداعيات فيروس كورونا. وهي الأزمة التي أطاحت جميع مخططاته، وجعلت من نيله ولاية ثانية أمراً مشكوكاً به، بعدما كان شبه محسوم، لا سيما بعدما سقطت جميع الأوراق التي كان يراهن عليها، وفي مقدمتها ورقة نمو الاقتصاد وتراجع البطالة. أشهَرَ ترامب في الأزمة الجديدة كل أدوات المواجهة، من الخطاب التحريضي إلى وصف المحتجين بأنهم بلطجية ورعاع وفاشلون، حتى أنه لم يتردد في التهديد بتحريك الجيش لوقف الاحتجاجات، حتى يخيل للمتابع أنه يستمع إلى أحد الرؤساء العرب في زمن الثورات، عندما كانوا يخرجون في خطابات من خلف الشاشات، يكيلون التهديد والوعيد لشعوبهم ثم يطلقون بلطجيتهم والأجهزة الأمنية.

يبدو قاطن البيت الأبيض مستعدّاً للتضحية بكل شيء، حتى السلم المجتمعي، في مقابل عدم الخسارة. هو من ذلك النمط الذي يستشيط غضباً إذا ما وجد من يقول له ويعارضه حتى في الموقف. أفعال مثل التراجع خطوة إلى الوراء، الاعتذار، الاعتراف بالخطأ، بانتشار العنصرية وضرورة مكافحتها والاستماع إلى مطالب المحتجين، والعمل على تلبيتها، عوضاً عن محاولة إسكاتهم، تبدو من خارج القاموس الذي يستمد منه ممارسته السياسة، وهو الآتي إليها من عالم رجال الأعمال والصفقات والرشى والابتزاز الذي يعد أفضل ما يجيده. لهذا السبب، جاءت أعمال الشغب التي رافقت الاحتجاجات كصيد ثمين له. ظنّ أن في إمكانه توظيفها إلى الحد الأقصى لاختزال التظاهرات بها وخنقها، لكن سرعان ما خسر هذا الرهان. استعادت التظاهرات في الساعات الثماني والأربعين الماضية مسارها الصحيح، تركيز على أصل المشكلة، العنصرية المتجذرة والمتفاقمة، وهو ما لا يريده ترامب، لأنه يدرك جيداً أن الأزمة ليست في أعمال الشغب التي رافقت الاحتجاجات، بل بالتراكمات التي تفجرت بعد نشر مقطع مصور يظهر آخر لحظات فلويد وهو يتوسل الشرطي التوقف عن الضغط بركبته على رقبته، لأنه لا يستطيع التنفس.